قوله تعالى : { اقتلوا يوسف } ، اختلفوا في قائل هذا القول ، فقال وهب : قاله شمعون . وقال كعب : قاله دان . { أو اطرحوه أرضاً } ، أي : إلى أرض يبعد عن أبيه . وقيل : في أرض تأكله السباع . { يخل لكم } ، يخلص لكم ويصف لكم . { وجه أبيكم } ، عن شغله بيوسف ، { وتكونوا من بعده } ، من بعد قتل يوسف ، { قوماً صالحين } ، تائبين ، أي : توبوا بعدما فعلتم هذا يعف الله عنكم . وقال مقاتل : يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم .
ثم أخبر - سبحانه - عما اقترحوه للقضاء على يوسف فقال - تعالى - : { اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } .
ولفظ " اطرحوه " مأخوذ من الطرح ، ومعناه رمى الشئ وإلقاؤه بعيداً ، ولفظ " أرضاً " منصوب على نزع الخافض ، والتنوين فيه للإِبهام . أى : أرضا مجهولة .
والمعنى : لقد بالغ أبونا في تفضيل يوسف وأخيه علينا ، مع أننا أولى بذلك منهما ؛ وما دام هو مصراً على ذلك ، فالحل أن تقتلوا يوسف ، أو أن تلقوا به في أرض بعيدة مجهولة حتى يموت فيها غريبا .
قال الآلوسى : " وحاصل المعنى : اقتلوه أو غربوه ، فإن التغريب كالقتل في حصول المقصود ، ولعمرى لقد ذكروا أمرين مرين ، فإن الغربة كربة اية كبرة ، ولله - تعالى - در القائل :
حسنوا القول وقالوا غربة . . . إنما الغربة للأحرار ذبح
والخلو : معناه الفراغ . يقال خلا المكان يخلو خلوا وخلاء ، إذا لم يكن به أحد .
والمعنى : اقتلوا يوسف أو اقذفوا به في أرض بعيدة مجهولة حتى يموت ، فإنكم إن فعلتم ذلك ، خلصت لكم محبة أبيكم دون أن يشارككم فيها أحد ، فيقبل عليكم بكليته ، ويكن كل توجهه إليكم وحدكم ، بعد أن كان كل توجهه إلى يوسف .
قال صاحب الكشاف : { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } أى : يقبل عليكم إقبالة واحدة ، لا يلتفت عنكم إلى غيركم والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها ، وينازعهم إياها ، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم ، لأن الرجل إذا أقبل على الشئ أقبل عليه بوجهه .
وقوله { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } معطوف على جواب الأمر .
أى : وتكونوا من بعد الفراغ من أمر يوسف بسبب قتله أو طرحه في أرض بعيدة ، قوما صالحين في دينكم ، بأن تتوبوا إلى الله بعد ذلك فيقبل الله توبتكم ، وصالحين في دنياكم بعد أن خلت من المنغصات التي كان يثيرها وجود يوسف بينكم .
وهكذا النفوس عندما تسيطر علها الأحقاد ، وتقوى فيها رذيلة الحسد ، تفقد تقديرها الصحيح للأمور ، وتحاول التخلص ممن يزاحمها بالقضاء عليه ، وتصور الصغائر في صورة الكبائر ، والكبائر في صورة الصغائر .
فإخوة يوسف هنا ، يرون أن محبة أبيهم لأخيهم جرم عظيم ، يستحق إرهاق روح الأخ . وفى الوقت نفسه يرون أن هذا الإِزهاق للروح البريئة شئ هين ، في الإِمكان أن يعودوا بعده قوما صالحين أمام خالقهم ، وأمام أبيهم ، وأمام أنفسهم .
ثُم يغلي الحقد ويدخل الشيطان ، فيختل تقديرهم للوقائع ، وتتضخم في حسهم أشياء صغيرة ، وتهون أحداث ضخام . تهون الفعلة الشنعاء المتمثلة في إزهاق روح . روح غلام بريء لا يملك دفعا عن نفسه ، وهو لهم أخ . وهم أبناء نبي - وإن لم يكونوا هم أنبياء - يهون هذا . وتضخم في أعينهم حكاية إيثار أبيهم له بالحب . حتى توازي القتل . أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك بالله :
( اقتلوا يوسف . أو اطرحوه أرضا ) . .
وهما قريب من قريب . فطرحه في أرض نائية مقطوعة مفض في الغلب إلى الموت . . ولماذا ؟
فلا يحجبه يوسف . وهم يريدون قلبه . كأنه حين لا يراه في وجهه يصبح قلبه خاليا من حبه ، ويتوجه بهذا الحب إلى الآخرين ! والجريمة ؟ الجريمة تتوبون عنها وتصلحون ما أفسدتم بارتكابها :
( وتكونوا من بعده قوما صالحين ) ! . .
هكذا ينزغ الشيطان ، وهكذا يسول للنفوس عندما تغضب وتفقد زمامها ، وتفقد صحة تقديرها للأشياء والأحداث . وهكذا لما غلا في صدورهم الحقد برز الشيطان ليقول لهم : اقتلوا . . والتوبة بعد ذلك تصلح ما فات ! وليست التوبة هكذا . إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يندفع إليها المرء غافلا جاهلا غير ذاكر ؛ حتى إذا تذكر ندم ، وجاشت نفسه بالتوبة . أما التوبة الجاهزة ! التوبة التي تعد سلفا قبل ارتكاب الجريمة لإزالة معالم الجريمة ، فليست بالتوبة ، إنما هي تبرير لارتكاب الجريمة يزينه الشيطان !
{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } يقولون : هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم ، أعدموه من وجه أبيكم ، ليخلو لكم وحدكم ، إما بأن تقتلوه ، أو تلقوه في أرض من الأراضي - تستريحوا منه ، وتختلوا أنتم بأبيكم ، وتكونوا من{[15069]} بعد إعدامه قوما صالحين . فأضمروا التوبة قبل الذنب .
وقوله : { اقتلوا يوسف } الآية ، كانت هذه مقالة بعضهم . { أو اطرحوه } معناه : أبعدوه ، ومنه قول عروة بن الورد :
ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً*** يغرر ويطرح نفسه كل مطرح{[6569]}
والنوى : الطروح البعيدة ، و { أرضاً } مفعول ثان بإسقاط حرف الجر ، لأن طرح - لا يتعدى إلى مفعولين إلا كذلك . وقالت فرقة : هو نصب على الظرف - وذلك خطأ لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهماً وهذه هنا ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك إبهامها ، ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض ، فبين أنها أرض بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه{[6570]} .
وقوله : { يخل لكم وجه أبيكم } استعارة{[6571]} ، أي إذا فقد يوسف رجعت محبته إليكم ، ونحو هذا قول العربي حين أحبته أمه لما قتل إخوته وكانت قبل لا تحبه : الثكل أرأمها{[6572]} ، أي عطفها عليه ، والضمير في { بعده } عائد على يوسف أو قتله أو طرحه ، و { صالحين } قال السدي ومقاتل بن سليمان : إنهم أرادوا صلاح الحال عند أبيهم ، وهذا يشبه أن يكون قصدهم في تلك الحال ولم يكونوا حينئذ أنبياء ، وقال الجمهور : { صالحين } معناه بالتوبة ، وهذا هو الأظهر من اللفظ ، وحالهم أيضاً تعطيه ، لأنهم مؤمنون بثوا على عظيمة وعللوا أنفسهم بالتوبة ؛
جملة مستأنفة استئنافاً بيانيّاً لأنّ الكلام المتقدم يثير سؤالاً في نفوس السّامعين عن غرض القائلين ممّا قالوه فهذا المقصود للقائلين . وإنّما جعلوا له الكلام السابق كالمقدمة لتتأثّر نفوس السّامعين فإذا ألقي إليها المطلوب كانت سريعة الامتثال إليه .
وهذا فنّ من صناعة الخطابة أن يفتتح الخطيب كلامه بتهيئة نفوس السّامعين لتتأثّر بالغرض 4المطلوب . فإنّ حالةَ تأثّر النفوس تغني عن الخطيب غَناء جمَل كثيرة من بيان العلل والفوائد ، كما قال الحريري في المقامة الحادية عشرة « فلما دَفنوا الميْت ، وفات قول ليت ، أشرف شيخٌ من رِباوة ، متأبّطاً لهراوة ، فقال لمثل هذا فليعمل العاملون » . وانهلّ في الخطب .
والأمر مستعمل في الإرشاد . وأرادوا ارتكاب شيء يفرّق بين يوسف وأبيه عليهما السّلام تفرقة لا يحاول من جَرّائِهَا اقتراباً بأن يعدموه أو ينقلوه إلى أرض أخرى فيهلك أو يفْتَرَس .
وهذه آية من عبر الأخلاق السيّئة وهي التّخلّص من مزاحمة الفاضل بفضله لمن هو دونه فيه أو مساويه بإعدام صاحب الفضل وهي أكبر جريمة لاشتمالها على الحسد ، والإضرار بالغير ، وانتهاك ما أمر الله بحفظه ، وهم قد كانوا أهل دين ومن بيت نبوءة وقد أصلح الله حالهم من بعد وأثنى عليهم وسمّاهم الأسباط .
وانتصب { أرضاً } على تضمين { اطْرَحوه } معنى أوْدعوه ، أو على نزع الخافض ، أو على تشبيهه بالمفعول فيه لأنّ { أرضاً } اسم مكان فلما كان غيرَ محدود وزاد إبهاماً بالتّنكير عومِلَ معاملة أسماء الجهات ، وهذا أضعف الوجوه . وقد علم أنّ المراد أرض مجهولة لأبيه .
وجَزم { يَخْلُ } في جواب الأمر ، أي إنْ فعلتم ذلك يخلُ لكم وجه أبيكم .
والخلوّ : حقيقته الفراغ . وهو مستعمل هنا مجازاً في عدم التوجّه لمن لا يرغبون توجّهه له ، فكأنّ الوجه خلا من أشياء كانت حالة فيه .
واللاّم في قوله { لكم } لام العلة ، أي يخل وجه أبيكم لأجلكم ، بمعنى أنّه يخلو ممّن عداكم فينفرد لكم .
وهذا المعنى كناية تلويح عن خلوص محبّته لهم دون مشارك .
وعطف { وتكونوا من بعده } أي من بعد يوسف عليه السّلام على { يخل } ليكون من جملة الجواب للأمر . فالمراد كونٌ ناشيء عن فعل المأمور به فتعيّن أن يكون المراد من الصلاح فيه الصلاح الدنيوي ، أيْ صلاح الأحوال في عيشهم مع أبيهم ، وليس المراد الصلاح الديني .
وأنّما لم يدبروا شيئاً في إعدام أخي يوسف عليه السّلام شفقةً عليه لصغره .
وإقحام لفظ { قوماً } بَيْنَ كان وخبرها للإشارة إلى أنّ صلاح الحال صفة متمكّنة فيهم كأنّه من مقوّمات قوميّتهم . وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى { لآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة ( 164 ) وعند قوله تعالى : { وما تغني الآيات والنّذر عن قوم لا يؤمنون } في سورة يونس ( 101 ) .
وهذا الأمر صدر من قائله وسامعيه منهم قبل اتّصافهم بالنبوءة أو بالولاية لأنّ فيه ارتكاب كبيرة القتل أو التّعذيب والاعتداء ، وكبيرة العقوق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال بعضهم لبعض: {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا} بعيدة، {يخل لكم وجه أبيكم}، فيقبل عليكم بوجهه، {وتكونوا}، يعني: وتصيروا {من بعده قوما صالحين}، يعني: يصلح أمركم وحالكم عند أبيكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: قال إخوة يوسف بعضهم لبعض: {اقتلوا يوسف أو اطرحوه} في أرض من الأرض، يعنون: مكانا من الأرض. {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أبِيكُمْ}، يعنون: يخل لكم وجه أبيكم من شغله بيوسف، فإنه قد شغله عنا وصرف وجهه عنا إليه. {وتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْما صَالِحِينَ}، يعنون: إنهم يتوبون من قتلهم يوسف وذنبهم الذي يركبونه فيه، فيكونون بتوبتهم من قتله من بعد هلاك يوسف قوما صالحين...
{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَو اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}؛ فإنهم تآمروا فيما بينهم على أحد هذين مِنْ قَتْلٍ أو تبعيد له عن أبيه. وكان الذي استجازوا ذلك واستجرأوا من أجله عليه قولهم: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} فرَجَوُا التوبة بعد هذا الفعل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي يخْلُصْ لكم إقبالُ أبيكم عليكم، وقديماً قيل: مَنْ طَلَبَ الكُلَّ فَاتَه الكلُّ؛ فلمَّا أرادوا أن يكون إقبالُ يعقوب- عليه السلام -بالكليَّةِ- عليهم قال تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} [الأعراف:93]. ويقال كان قَصْدُهم ألا يكونَ يوسف عليه السلام أمامَ عينه فقالوا: إمَّا القتلُ وإمَّا النَّفيُ، ولا بأسَ بما يكونُ بعد ألا يكونَ يوسف عليه السلام. قوله جلّ ذكره: {وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} عَجَّلوا بالحرام، وَعلَّقُوا التوبةَ بالتسويف والعزم، فلم يمحُ ما أَجَّلُوا من التوبة ما عجَّلوا من الحَوْبة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{اقتلوا يُوسُفَ} من جملة ما حكى بعد قوله: إذ قالوا: كأنهم أطبقوا على ذلك إلا من قال {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} وقيل: الآمر بالقتل شمعون، وقيل: دان، والباقين كانوا راضين، فجعلوا آمرين. {أَرْضًا} أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الوصف، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة. {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم. والمراد: سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم؛ لأنّ الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه. ويجوز أن يراد بالوجه الذات... وقيل {يَخْلُ لَكُمْ}: يفرغ لكم من الشغل بيوسف {مِن بَعْدِهِ}: من بعد يوسف، أي من بعد كفايته بالقتل أو التغريب، أو يرجع الضمير إلى مصدر اقتلوا أو اطرحوا {قَوْمًا صالحين}: تائبين إلى الله مما جنيتم عليه، أو يصلح ما بينكم وبين أبيكم بعذر تمهدونه، أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم بعده بخلوّ وجه أبيكم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ذلك، وكان عندهم أن الشاغل الأعظم لأبيهم عنهم إنما هو حب يوسف عليه الصلاة والسلام، وحب أخيه إنما هو تابع، كان كأنهم تراجعوا فيما بينهم فقالوا: قد تقرر هذا، فما أنتم صانعون؟ فقالوا أو من شاء الله منهم: {اقتلوا يوسف} أصل القتل: إماتة الحركة بالسكون {أو اطرحوه أرضاً} أوصلوا الفعل بدون حرف ونكروها دلالة على أنها منكورة مجهولة بحيث يهلك فيها، وعنى قائلهم بذلك: إن تورعتم عن مباشرة قتله بأيديكم. ولما كان التقدير: إن تفعلوا ذلك، أجابه بقوله: {يخل لكم} أي خاصاً بكم {وجه أبيكم} أي قصده لكم وتوجهه إليكم وقصدكم ونيتكم. ولما كان أهل الدين لا يهملون إصلاح دينهم لأنه محط أمرهم، قالوا: {وتكونوا} أي كوناً هو في غاية التمكن، ولما كانوا عالمين بأن الموت لا بد منه. فهو مانع من استغراقهم للزمان الآتي، أدخلوا الجار فقالوا: {من بعده} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {قوماً} أي ذوي نشاط وقوة على محاولة الأمور {صالحين} أي عريقين في وصف الصلاح مستقيمين على طريقة تدعو إلى الحكمة بوقوع الألفة بينكم واستجلاب محبة الوالد بالمبالغة في بره وبالتوبة من ذنب واحد يكون سبباً لزوال الموجب لداء الحسد الملزوم لذنوب متصلة من البغضاء والمقاطعة والشحناء، فعزموا على التوبة قبل وقوع الذنب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا} أي اقتلوه قتلا لا مطمع بعده ولا أمل في لقائه، أو انبذوه كالشيء اللقا الذي لا قيمة له في أرض مجهولة بعيدة عن مساكننا أو عن العمران بحيث لا يهتدي إلى العودة إلى أبيه سبيلا إن هو سلم فيها من الهلاك {يخل لكم وجه أبيكم} فيكن كل توجهه إليكم، وكل إقباله عليكم، بخلو الديار ممن يشغله عنكم أو يشارككم في عطفه وحبه، وهذه الجملة من فوائد درر الكلام البليغ بتصويرها حصر الحب وتوجه الإقبال والعطف بصورة الضروريات التي لا اختيار للرأي ولا للإرادة فيها، لا من ظاهر الحس، ولا من وجدان النفس، بعد وقوع هذه الجناية التي تقتضي إعراض الوجه، وإعراض الكراهة والمقت {وتكونوا من بعده} أي من بعد يوسف أو بعد قتله وتغريبه {قوما صالحين} تائبين إلى الله من هذه الجريمة، مصلحين لأعمالكم بما يكفر إثمها، وعدم التصدي لمثلها، فيرضى عنكم أبوكم ويرضى ربكم، هكذا يزين الشيطان للمؤمن المتدين معصية الله تعالى ولا يزال ينزغ له ويسول، ويعد ويمني ويأوّل، حتى يرجح داعي الإيمان، أو يجيب داعي الشيطان، وهذا الذي غلب على إخوة يوسف فكان، ولكن بعد رأفة مخففة لحكم الانتقام، وهو مقتضى الحكمة التي أرادها الله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثُم يغلي الحقد ويدخل الشيطان، فيختل تقديرهم للوقائع، وتتضخم في حسهم أشياء صغيرة، وتهون أحداث ضخام. تهون الفعلة الشنعاء المتمثلة في إزهاق روح. روح غلام بريء لا يملك دفعا عن نفسه، وهو لهم أخ. وهم أبناء نبي -وإن لم يكونوا هم أنبياء- يهون هذا. وتضخم في أعينهم حكاية إيثار أبيهم له بالحب. حتى توازي القتل. أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك بالله: (اقتلوا يوسف. أو اطرحوه أرضا).. وهما قريب من قريب. فطرحه في أرض نائية مقطوعة مفض في الغلب إلى الموت.. ولماذا؟ (يخل لكم وجه أبيكم).. فلا يحجبه يوسف. وهم يريدون قلبه. كأنه حين لا يراه في وجهه يصبح قلبه خاليا من حبه، ويتوجه بهذا الحب إلى الآخرين! والجريمة؟ الجريمة تتوبون عنها وتصلحون ما أفسدتم بارتكابها: (وتكونوا من بعده قوما صالحين)!.. هكذا ينزغ الشيطان، وهكذا يسول للنفوس عندما تغضب وتفقد زمامها، وتفقد صحة تقديرها للأشياء والأحداث. وهكذا لما غلا في صدورهم الحقد برز الشيطان ليقول لهم: اقتلوا.. والتوبة بعد ذلك تصلح ما فات! وليست التوبة هكذا. إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يندفع إليها المرء غافلا جاهلا غير ذاكر؛ حتى إذا تذكر ندم، وجاشت نفسه بالتوبة. أما التوبة الجاهزة! التوبة التي تعد سلفا قبل ارتكاب الجريمة لإزالة معالم الجريمة، فليست بالتوبة، إنما هي تبرير لارتكاب الجريمة يزينه الشيطان!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذه آية من عبر الأخلاق السيّئة وهي التّخلّص من مزاحمة الفاضل بفضله لمن هو دونه فيه أو مساويه بإعدام صاحب الفضل وهي أكبر جريمة لاشتمالها على الحسد، والإضرار بالغير، وانتهاك ما أمر الله بحفظه، وهم قد كانوا أهل دين ومن بيت نبوءة وقد أصلح الله حالهم من بعد وأثنى عليهم وسمّاهم الأسباب والخلوّ: حقيقته الفراغ. وهو مستعمل هنا مجازاً في عدم التوجّه لمن لا يرغبون توجّهه له، فكأنّ الوجه خلا من أشياء كانت حالة فيه. واللاّم في قوله {لكم} لام العلة، أي يخل وجه أبيكم لأجلكم، بمعنى أنّه يخلو ممّن عداكم فينفرد لكم. وهذا المعنى كناية تلويح عن خلوص محبّته لهم دون مشارك. وعطف {وتكونوا من بعده} أي من بعد يوسف عليه السّلام على {يخل} ليكون من جملة الجواب للأمر. فالمراد كونٌ ناشئ عن فعل المأمور به فتعيّن أن يكون المراد من الصلاح فيه الصلاح الدنيوي، أيْ صلاح الأحوال في عيشهم مع أبيهم، وليس المراد الصلاح الديني. وإنّما لم يدبروا شيئاً في إعدام أخي يوسف عليه السّلام شفقةً عليه لصغره. وإقحام لفظ {قوماً} بَيْنَ كان وخبرها للإشارة إلى أنّ صلاح الحال صفة متمكّنة فيهم كأنّه من مقوّمات قوميّتهم. وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164) وعند قوله تعالى: {وما تغني الآيات والنّذر عن قوم لا يؤمنون} في سورة يونس (101). وهذا الأمر صدر من قائله وسامعيه منهم قبل اتّصافهم بالنبوءة أو بالولاية لأنّ فيه ارتكاب كبيرة القتل أو التّعذيب والاعتداء، وكبيرة العقوق...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا تصوير للجريمة كيف يبتدئ دخولها في نفس من تسول له نفسه الإجرام، لقد زينوا لأنفسهم أولا أنهم الأجدر بالمحبة، وأنهم الأنفع، ثم اندفعوا إلى تدبير الجريمة وتنفيذ القتل، أو أن يطرحوه ارضا بعيدة عن العمران، فاتفقوا على أحد الأمرين إما القتل، وإما النفي، وتركه في أرض الله. ولكن واحد منهم أبعد فكرة القتل، وقال: لا تقتلوه. ومعنى: {يخل لكم وجه أبيكم} يكون خالصا خاليا من الحب الذي كان ليوسف، {وتكونوا من بعده قوما صالحين} أي تستقيم حياتكم مع أبيكم، ويصلح أمركم مع أبيكم بعذر تعتذرونه، أو تتوبوا عن إثم القتل، {وتكونوا من بعده قوما صالحين}، وهكذا تزين الجريمة، وتقرب التوبة.
والقتل هو قمة ما فكروا فيه من شر؛ ولأنهم من الأسباط هبط الشر إلى مرتبة أقل؛ فقالوا: {أو اطرحوه أرضا} فكأنهم خافوا من إثم القتل؛ وظنوا بذلك أنهم سينفردون بحب أبيهم؛ لأنهم قالوا: {يخل لكم وجه أبيكم} والوجه هو الذي تتم به المواجهة والابتسام والحنان، وهو ما تظهر عليه الانفعالات. والمقصود ب: {يخل لكم وجه أبيكم} هو ألا يوجد عائق بينكم وبين أبيهم.
{وتكونوا من بعده قوما صالحين} أي: أنهم يقدرون الصلاح؛ ويعرفون أن الذي فكروا فيه غير مقبول بموازين الصلاح؛ لذلك قالوا: إنهم سيتوبون من بعد ذلك. ولكن: ما الذي أدراهم أنهم سوف يعيشون إلى أن يتوبوا؟ وهم بقولهم هذا نسوا أن أمر الموت قد أبهم حتى لا يرتكب أحد المعاصي والكبائر. أو: أن يكون المقصود ب: {قوما صالحين} هو أن يكونوا صالحين لحركة الحياة، ولعدم تنغيص علاقتهم بأبيهم؛ فحين يخلو لهم وجهه؛ سيرتاحون إلى أن أباهم سيعدل بينهم، ويهبهم كل حبه فيرتاحون. أو أن يكون المقصود ب {قوما صالحين} أن تلك المسألة التي تشغل بالهم وتأخذ جزءا من تفكيرهم إذا ما وجدوا لها حلا؛ فسيرتاح بالهم فينصلح حالهم لإدارة شؤون دنياهم. وهكذا نفهم أن سعيهم إلى الصلاح: منوط بمراداتهم في الحياة، بحسب مفهومهم للصلاح والحياة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... وبدأت الخطة الشريرة تتفاعل في تفكيرهم، وقرروا التخلص منه بأية طريقة ممكنة، لأن ذلك هو السبيل إلى أن يستقلوا بعاطفة أبيهم عندما ينسى يوسف ويتقرب من جديد إليهم، لملء الفراغ العاطفي الأبوي لديه، وهكذا طرحوا المسألة على بعضهم البعض. {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} ليضيع في التيه، أو ليموت في الجب، أو لتأكله السباع، {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} فلا يجد أمامه غيركم فيتجه بكل عاطفته إليكم. إنها الفكرة المسيطرة على أذهان الجميع، بحيث كان كل واحد يقولها لإخوته، ونلاحظ أنهم لم يتحدثوا عن أخ يوسف، ولم يفكروا بالتخلص منه، لانصراف العاطفة الجياشة تجاه يوسف ذي الميزات الجسدية والروحية، أما أخوه، فقد كان موقعه من حديثهم كونه الأخ الشقيق ليوسف، ومن المعلوم أن يوسف لم يكن شقيقهم من ناحية الأم، التي اعتبروها مسؤولةً عن هذا العطف غير العادي من أبيهم ليوسف، وهكذا كانت الفكرة الشريرة خاضعةً للحالة النفسية المعقدة التي نفذ الوسواس الشيطاني منها إليهم، ليوحي لهم بارتكاب الجريمة أوّلاً، ثم بالتوبة، وهذا هو دأب الأسلوب الشيطاني في مواجهة لحظة الخوف الإنساني من الله عندما يهم الإنسان بارتكاب ما يخالف أمره، إذ يعجل المعصية للإنسان، ويمنيه بالتوبة، ثم يدفعه إلى التسويف فيها بعد ذلك، وهكذا قال بعضهم الآخر، إن عليكم أن تقوموا بهذه الجريمة، وتتوبوا إلى الله بعدها، {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} في ما تقومون به من أعمال صالحة، وعبادات خالصة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ أدّى بهم الحسد إلى أن يخططوا لهذا الأمر، فاجتمعوا وقدموا مقترحين وقالوا: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً أرسلوه إلى منطقة بعيدة يخل لكم وجه أبيكم). ومن الحق أن تشعروا بالذنب والخجل في وجدانكم لأنّكم تقدمون على هذه الجناية في حق أخيكم الصغير، ولكن يمكن أن تتوبوا وتغسلوا الذنب (تكونوا من بعده قوماً صالحين). وهناك احتمال آخر لتفسير هذه الآية هو أنّكم إِذا أبعدتم أخاكم عن عيني أبيكم يصلح ما بينكم وبين أبيكم وتذهب أتعابكم ويزول أذاكم من هذا الموضوع، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر! وعلى كل حال فإنّ هذه الجملة تدلّ على إِحساسهم بالذنب من هذا العمل، وكانوا يخافون الله في أعماق قلوبهم، ولذلك قالوا: نتوب ونكون من بعده قوماً صالحين. ولكن المسألة المهمة هنا هي أنّ الحديث عن التوبة قبل الجريمة في الواقع هو لأجل خداع «الوجدان» وإِغرائه وفتح الباب للدخول إلى الذنب، فلا يعدّ دليلا على الندم أبداً. وبتعبير آخر: إِنّ التوبة الواقعية هي التي توجِد بعد الذنب حالة من الندم والخجل للإِنسان، وأمّا الكلام في التوبة قبل الذنب فليس توبة. وتوضيح ذلك أنّه كثيراً ما يقع أن الإِنسان حين يواجه الضمير و«الوجدان» عند الإِقدام على الذنب، أو حين يكون الاعتقاد الديني سدّاً وحاجزاً أمامه يمنعه عن الذنب وهو مصمم عليه، فمن أجل أن يجتاز حاجز الوجدان أو الشرع بيسر، يقوم الشخص بخداع نفسه وضميره يأتي سوف أقف مكتوف اليدين بعد الذنب، بل سأتوب وأمضي إلى بيت الله وأؤدي الأعمال الصالحة، وسأغسل جميع آثار الذنوب. أي إِنّه في الوقت الذي يرسم الخطة الشيطانية للإِقدام على الذنب، يرسم خطة شيطانية أُخرى لمخادعة الضمير والوجدان... وللاعتداء على عقيدته! فإلى أيّ درجة تبلغ هذه الخطة من السوء بحيث تمكّن الإِنسان من تحقيق الجناية والذنب وكسر الحاجز الديني الذي يقف أمامه!! إِنّ إِخوة يوسف دخلوا من هذا الطريق أيضاً. المسألة الدقيقة الأُخرى في هذه الآية: أنّهم قالوا: (يخلُ لكم وجه أبيكم) ولم يقولون: يخلُ لكم قلب أبيكم، وذلك لأنّهم لم يطمئنّوا إلى أنّ أباهم ينسى يوسف بهذه السرعة... فيكفي أن يتوجه إِليهم أبوهم، ولو ظاهراً! وهناك احتمال آخر لهذا التعبير، وهو أنّ الوجه والعينين نافذتان إلى القلب، فمتى ما خلا الوجه لهم فإنّ القلب سيخلو ويتوجه إِليهم بالتدريج...