معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

قوله تعالى : { قال } أبوه مجيباً له : { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته } ، لئن لم تسكت وترجع عن عيبك آلهتنا وشتمك إياها ، { لأرجمنك } ، قال الكلبي ، ومقاتل ، والضحاك : لأشتمنك ، ولأبعدنك عني بالقول القبيح . قال ابن عباس لأضربنك . وقال عكرمة : لأقتلنك بالحجارة . { واهجرني ملياً } ، قال الكلبي : اجنبني طويلاً . وقال مجاهد وعكرمة : حيناً . وقال سعيد بن جبير : دهراً وأصل الحين : المكث ، ومنه يقال : فمكثت حيناً ، والملوان : الليل والنهار . وقال قتادة وعطاء : سالماً . وقال ابن عباس : اعتزلني سالماً لا تصيبك مني معرة ، يقال : فلان ملي بأمر كذا : إذا كان كافياً .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

ولكن هذه النصيحة الحكيمة الغالية من إبراهيم لأبيه ، لم تصادف أذناً واعية ولم تحظ من أبيه بالقبول بل قوبلت بالاستنكار والتهديد فقد قال الأب لكافر لابنه المؤمن : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرني مَلِيّاً } .

والاستفهام فى قوله { أَرَاغِبٌ } للإنكار والتهديد والرغبة عن الشىء : تركه عمداً زهدا فيه لعدم الحاجة إليه .

ولفظ { أَرَاغِبٌ } مبتدأ ، { أَنتَ } فاعل سد مسد الخبر ، و { مَلِيّاً } أى : زمنا طويلا ، مأخوذ من الملاوة ، وهى الفترة الطويلة من الزمان ، ويقال الليل والنهار : الملوان .

والمعنى : قال والد إبراهيم له على سبيل التهديد والوعيد ، أتارك أنت يا إبراهيم عبادة آلهتى ، وكاره لتقرب الناس إليها ، ومنفرهم منها لئن لم تنته عن هذا المسلك ، { لأَرْجُمَنَّكَ } بالحجارة وبالكلام القبيح { واهجرني مَلِيّاً } بأن تغرب عن وجهى زمنا طويلا لا أحب أن أراك فيه .

وهكذا قابل الأب الكافر أدب ابنه المؤمن ، بالفظاظة والغلظة والتهديد والعناد والجهالة . . . شأن القلب الذى أفسده الكفر .

ولكن إبراهيم - عليه السلام - لم يقابل فظاظة أبيه وتهديده بالغضب والضيق ، بل قابل ذلك بسعة الصدر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي ، فإذا أبو إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد :

( قال : أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ? لئن لم تنته لأرجمنك . واهجرني مليا ) .

أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ، وكاره لعبادتها ومعرض عنها ? أو بلغ بك الأمر إلى هذا الحد من الجراءة ? ! فهذا إنذار لك بالموت الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف الشنيع : ( لئن لم تنته لأرجمنك ) ! فاغرب عن وجهي وابعد عني طويلا . استبقاء لحياتك إن كنت تريد النجاة : ( واهجرني مليا ) . .

بهذه الجهالة تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى . وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب . وذلك شأن الإيمان مع الكفر ؛ وشأن القلب الذي هذبه الإيمان والقلب الذي أفسده الكفر .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

يقول تعالى مخبرًا عن جواب أبي إبراهيم [ لولده إبراهيم ]{[18860]} فيما دعاه إليه أنه قال : { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ } يعني : [ إن كنت لا ]{[18861]} تريد عبادتها ولا ترضاها ، فانته عن سبها وشتمها وعيبها ، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصتُ منك وشتمتك وسببتك ، وهو{[18862]} قوله : { لأرْجُمَنَّكَ } ، قاله ابن عباس ، والسدي ، وابن جريج ، والضحاك ، وغيرهم .

وقوله : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } : قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن إسحاق : يعني دهرًا .

وقال الحسن البصري : زمانًا طويلا . وقال السدي : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } قال : أبدًا .

وقال علي بن أبي طلحة ، والعوفي ، عن ابن عباس : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } قال : سويًّا سالمًا ، قبل أن تصيبك مني عقوبة . وكذا قال الضحاك ، وقتادة وعطية الجَدَلي و[ أبو ]{[18863]} مالك ، وغيرهم ، واختاره ابن جرير .


[18860]:زيادة من ف، أ.
[18861]:زيادة من ف، أ، وفي هـ: "أما".
[18862]:في أ: "وهي".
[18863]:زيادة من ف، أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

{ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } قابل استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظة وغلظه العناد فناداه باسمه ولم يقابل { يا أبتي } بيا بني ، وأخره وقدم الخبر على المبتدأ وصدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب ، كأنها مما لا يرغب عنها عاقل ثم هدده فقال : { لئن لم تنته } عن مقالك فيها أو الرغبة عنها . { لأرجمنك } بلساني يعني الشتم والذم أو بالحجارة حتى تموت ، أو تبعد مني . { واهجرني } عطف على ما دل عليه { لأرجمنك } أي فاحذرني . واهجرني { مليا } زمانا طويلا من الملاوة أو مليا بالذهاب عني .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

قال آزر وهو تارخ { أراغب أنت عن آلهتي } ، والرغبة ميل النفس ، فقد تكون الرغبة في الشيء وقد تكون عنه ، وقوله { أراغب } رفع بالابتداء و { أنت } فاعل به يسد مسد الخبر وحسن ذلك وقربه اعتماد «راغب » على ألف الاستفهام ، ويجوز أن يكون «راغب » خبراً مقدماً و { أنت } ابتداء والأول أصوب وهو مذهب سيبويه{[7970]} .

وقوله { عن آلهتي } ، يريد الأصنام وكان فيما روي ينحتها وينجرها بيده ويبيعها ويحض عليها فقرر ابنه إبراهيم على رغبته عنها على جهة الإنكار عليه ثم أخذ يتوعده ، وقوله { لأرجمنك } اختلف فيه المتأولون ، فقال السدي وابن جريج والضحاك : معناه بالقول ، أي لأشتمنك { واهجرني } أنت إذا شئت مدة من الدهر ، أو سالماً حسب الخلاف الذي سنذكره . وقال الحسن بن أبي الحسن : معناه { لأرجمنك } بالحجارة ، وقالت فرقة : معناه لأقتلنك ، وهذان القولان بمعنى واحد ، وقوله { واهجرني } على هذا التأويل إنما يترتب بأنه أمر على حياله كأنه قال : إن لم تنته لأقتلنك بالرجم ، ثم قال له { واهجرني } أي مع انتهائك كأنه جزم له الأمر بالهجرة وإلا فمع الرجم لا تترتب الهجرة و { ملياً } معناه دهراً طويلاً مأخوذ من الملوين وهما الليل والنهار وهذا قول الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما فهو ظرف{[7971]} ، وقال ابن عباس وغيره { ملياً } معناه سليماً منا سوياً فهو حال من { إبراهيم } عليه السلام{[7972]} ، وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستبداً بحالك غنياً عني ملياً بالاكتفاء{[7973]} .


[7970]:وجه الصواب أمران: الأول أنه لا تقديم فيه ولا تأخير ؛ إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ، والثاني أنه ليس فيه فصل بين العامل الذي هو [أراغب] وبين معموله الذي هو {عن آلهتي} بما ليس بمعمول للعامل؛ لأن الخبر ليس عاملا في المبتدأ، بخلاف كون [أنت] فاعلا، فإنه معمول ل [أراغب] ، فلم يفصل بين [أراغب] وبين {عن آلهتي} بأجبني، إنما فصل بمعمول له . (قاله في البحر المحيط).
[7971]:وعليه قول الشاعر: نهار وليل دائم ملواهمــــــــــــــا على كل حال المرء يختلفــــــــــان
[7972]:والمعنى: اهجرني سالما بعرضك، لا تصيبنك مني معرة، وقد اختار الطبري هذا المعنى.
[7973]:ومن استعمال [مليا] في الدهر الطويل قول المهلهل: فتصدعت صم الجبــال لموته وبكت عليه المرمــــــلات مليا
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

فصلت جملة : { قال . . . } لوقوعها في المحاورة كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) .

والاستفهام للإنكار إنكاراً لتجافي إبراهيم عن عبادة أصنامهم . وإضافة الآلهة إلى ضمير نفسه إضافة ولاية وانتساب إلى المضاف لقصد تشريف المضاف إليه .

وقد جاء في جوابه دعوة ابنه بمنتهى الجفاء والعُنجهية بعكسِ ما في كلام إبراهيم من الليّن والرقة ، فدلّ ذلك على أنه كان قاسيَ القلب ، بعيد الفهم ، شديد التصلّب في الكفر .

وجملة أراغب أنت جملة اسمية مركبة من مبتدأ وفاعل سدّ مسدّ الخبر على اصطلاح النحاة طرداً لقواعد التركيب اللفظي ، ولكنهم لما اعتبروا الاسم الواقع ثانياً بعد الوصف فاعلاً سادّاً مسدّ الخبر فقد أثبتوا لذلك الاسم حكم المسند إليه وصار للوصف المبتدأ حكم المُسند . فمن أجل ذلك كان المصير إلى مثل هذا النظم في نظر البلغاء هو مقتضى كون المقام يتطلّب جملة اسمية للدلالة على ثباتٍ المسند إليه ، ويتطلّب الاهتمام بالوصف دون الاسم لغرض يوجب الاهتمام به ، فيلتجىء البليغ إلى الإتيان بالوصف أولاً والإتيان بالاسم ثانياً .

ولمّا كان الوصف له عملُ فعله تعين على النحاة اعتبار الوصف مبتدأ لأن للمبتدأ عراقةً في الأسماء ، واعتباره مع ذلك متطلّباً فاعلاً ، وجعلوا فاعله سادّاً مسدّ الخبر ، فصار للتركيب شبهان . والتحقيقُ أنه في قوّة خبر مقدم ومبتدأ مؤخر . ولهذا نظر الزمخشري في الكشاف إلى هذا المقصد فقال : قُدم الخبر على المبتدأ في قوله : { أراغب أنت عن آلهتي } لأنه كان أهمّ عنده وهو به أعنى اه . ولله دره ، وإن ضاع بين أكثر الناظرين دُرُّه . فدل النظم في هذه الآية على أن أبا إبراهيم ينكر على إبراهيم تمكن الرغبة عن آلهتهم من نفسه ، ويهتم بأمر الرغبة عن الآلهة لأنها موضع عَجب .

والنداء في قوله { يا إبراهيم } تكملة لجملة الإنكار والتعجب ، لأنّ المتعجب من فعله مع حضوره يقصد بندائه تنبيهه على سوء فعله ، كأنه في غيبة عن إدراك فعله ، فالمتكلم ينزله منزلة الغائب فيناديه لإرجاع رشده إليه ، فينبغي الوقف على قوله يا إبراهيم .

وجملة { لئن لم تنته لأرجمنك } مستأنفة .

واللام موطئة للقسم تأكيداً لكونه راجمهُ إن لم ينته عن كفره بآلهتهم .

والرجم : الرمي بالحجارة ، وهو كناية مشهورة في معنى القتل بذلك الرمي . وإسنادُ أبي إبراهيم ذلك إلى نفسه يحتمل الحقيقة ؛ إما لأنه كان من عادتهم أن الوالد يتحكم في عقوبة ابنه ، وإما لأنه كان حاكماً في قومه . ويحتمل المجاز العقلي إذ لعله كان كبيراً في دينهم فيرجم قومُه إبراهيمَ استناداً لحكمه بمروقه عن دينهم .

وجملة { واهجرني مليا } عطف على جملة لئن لم تنته لأرجمنك ؛ وذلك أنه هدّده بعقوبة آجلة إن لم يقلع عن كفره بآلهتهم ، وبعقوبة عاجلة وهي طردهُ من معاشرته وقطع مكالمته .

والهجر : قطع المكالمة وقطع المعاشرة ، وإنما أمر أبو إبراهيم ابنَه بهجرانه ولم يخبره بأنه هو يهجره ليدلّ على أن هذا الهجران في معنى الطرد والخَلْع إشعاراً بتحقيره .

ومليا : طويلاً ، وهو فعيل ، ولا يعرف له فعل مجرد ولا مصدر . فمليّ مشتق من مصدر مُمات ، وهو فعيل بمعنى فاعل لأنه يقال : أملى له ، إذا أطال له المدة ، فيأتون بهمزة التعدية ، فمليا صفة لمصدر محذوف منصوب على المفعولية المطلقة ، أي هجراً مَليّاً ، ومنه الملاوة من الدهر للمدة المديدة من الزمان ، وهذه المادة تدلّ على كثرة الشيء .

ويجوز أن ينتصب على الصفة لظرف محذوف ، أي زماناً طويلاً ، بناء على أن المَلا مقصوراً غالب في الزمان فذكره يغني عن ذكر موصوفه كقوله تعالى : { وحملناه على ذات ألواح } [ القمر : 13 ] ، أي سفينة ذات ألواح .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

فرد عليه أبوه ف {قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك}، يعني: لئن لم تسكت لأشتمنك، {واهجرني مليا}، يعني: أيام حياتك، ويقال: طويلا، واعتزلني وأطل هجراني، وكل شيء في القرآن لأرجمنك، يعني به القتل، غير هذا... عن ابن عباس: واعتزلني سالم العرض لا يصيبك مني معرة.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: قال أبو إبراهيم لإبراهيم، حين دعاه إبراهيم إلى عبادة الله وترك عبادة الشيطان، والبراءة من الأوثان والأصنام:"أرَاغِبٌ أنْتَ" يا إبراهيم عن عبادة آلهتي؟ "لَئِن أنت لَمْ تَنْتَهِ "عن ذكرها بسوء "لأَرْجُمَنّكَ" يقول: لأرجمنك بالكلام، وذلك السبّ، والقول القبيح...

وأما قوله: "وَاهْجُرْنِي مَلِيّا" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛

فقال بعضهم: معنى ذلك: واهجرني حينا طويلاً ودهرا. ووجّهوا معنى المليّ إلى المُلاوة من الزمان، وهو الطويل منه...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: واهجرني سَويّا سالما من عقوبتي إياك، ووجّهوا معنى المليّ إلى قول الناس: فلان مليّ بهذا الأمر: إذا كان مضطلعا به غنيا فيه. وكأن معنى الكلام كان عندهم: واهجرني وعرضُك وافر من عقوبتي، وجسمك معافى من أذاي...

وأولى القولين بتأويل الآية عندي قول من قال: معنى ذلك: واهجرني سويا، سِلما من عقوبتي، لأنه عقيب قوله "لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنّكَ"، وذلك وعيد منه له إن لم ينته عن ذكر آلهته بالسوء أن يرجمه بالقول السيئ، والذي هو أولى بأن يتبع ذلك التقدّم إليه بالانتهاء عنه قبل أن تناله العقوبة، فأما الأمر بطول هجره فلا وجه له.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{لئن لم تنته لأرجمنك} يحتمل وجوها. أحدها: {لئن لم تنته} عن دينك الذي أنت عليه {لأرجمنك} أي لأَقْتُلَنَّكَ. والثاني: {لئن لم تنته} عن دعائك إياي إلى دينك {لأرجمنك} أي لأطرُدَنَّكَ. والثالث: {لئن لم تنته} عن قذف آلهتنا وسبها وذكرها بسوء {لأرجمنك} أي لأشتمنك مكان شتمكَ وقذفكَ آلهتنا. فالرجم يشتمل على هذه الوجوه الثلاثة: القتل والطرد والشتم...

فإن كان على القتل فهو مقابل الدين، أي {لئن لم تنته} عن دينك لأقتلنك. وإن كان على الطرد مقابل الدعاء، أي {لئن لم تنته} عن دعائك إلى ما تدعو لأطردنك. وإن كان على الشتم فهو مقابل الشتم، أي {لئن لم تنته} عن شتمك آلهتنا لأشتمنك، والله أعلم.

{واهجرني مليا} قال بعضهم: طويلا. وقال بعضهم: دهرا. فإن كان مليا أي بعيدا فهو على بعده منه، أي ابعد مني، وتباعد مني دارا ومقاما وإن كان على الدهر والطول فهو يُخرج على ألا تكلمني أبدا، والله أعلم..

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

... حكى في هذه الآيات ما أجاب به أبوه، فإنه قال له يا إبراهيم "أراغب أنت عن آلهتي "ومعناه: أزاهد في عبادة آلهتي، والرغبة: اجتلاب الشيء لما فيه من المنفعة. والرغبة فيه نقيض الرغبة عنه. والترغيب الدعاء إلى الرغبة في الشيء. ثم قال له مهددا "لئن لم تنته" أي لم تمتنع من ذلك، يقال نهاه فانتهى. وأصله النهاية، فالنهي زجر عن الخروج عن النهاية المذكورة. والتناهي بلوغ نهاية الحد. وقوله "لأرجمنك" قال الحسن: معناه لأرمينك بالحجارة حتى تباعد عني. وقال السدي وابن جريج والضحاك: معناه لأرمينك بالذم والعيب...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

منَّاه إبراهيمُ بجميل العُقْبَى، فقابلَه بتوعدُّ العقوبة فقال: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مِليّاً}.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

لما أطلعه على سماجة صورة أمره، وهدم مذهبه بالحجج القاطعة، وناصحه المناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات، أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظة العناد، فناداه باسمه، ولم يقابل {يا أبت} ب (يا بنيّ)، وقدّم الخبر على المبتدأ في قوله: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يا إبراهيم} لأنه كان أهمّ عنده وهو عنده، أعني وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته، وأن آلهته، ما ينبغي أن يرغب عنها أحد. وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما دعا أباه إلى التوحيد، وذكر الدلالة على فساد عبادة الأوثان، وأردف تلك الدلالة بالوعظ البليغ، وأورد كل ذلك مقرونا باللطف والرفق، قابله أبوه بجواب يضاد ذلك، فقابل حجته بالتقليد، فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا قوله: {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم} فأصر على ادعاء إلهيتها جهلا وتقليدا وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم، وقابل رفقه في قوله: {يا أبت} بالعنف حيث لم يقل له يا بني بل قال: {يا إبراهيم} وإنما حكى الله تعالى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم ليخفف على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين فيعلم أن الجهال منذ كانوا على هذه السيرة المذمومة.

أما قوله: {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم} فإن كان ذلك على وجه الاستفهام فهو خذلان لأنه قد عرف منه ما تكرر منه من وعظه وتنبيهه على الدلالة، وهو يفيد أنه راغب عن ذلك أشد رغبة فما فائدة هذا القول. وإن كان ذلك على سبيل التعجب فأي تعجب في الإعراض عن حجة لا فائدة فيها، وإنما التعجب كله من الإقدام على عبادتها، فإن الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام كما أنه يبطل جواز عبادتها فهو يفيد التعجب من أن العاقل كيف يرضى بعبادتها، فكأن أباه قابل ذلك التعجب الظاهر المبني على الدليل بتعجب فاسد غير مبني على دليل وشبهة، ولا شك أن هذا التعجب جدير بأن يتعجب منه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{أراغب} قدم الخبر لشدة عنايته والتعجيب من تلك الرغبة والإنكار لها، إشارة إلى أنه لا يفعلها أحد؛ ثم صرح له بالمواجهة بالغلظة فقال: {أنت} وقال: {عن ءالهتي} بإضافتها إلى نفسه فقط، إشارة إلى مبالغته في تعظيمها؛ والرغبة عن الشيء: تركه عمداً. ثم ناداه باسمه لا بلفظ النبوة المذكر بالشفقة والعطف زيادة في الإشارة إلى المقاطعة وتوابعها فقال: {يا إبراهيم} ثم استأنف قوله مقسماً: {لئن لم تنته} عما أنت عليه {لأرجمنك} أي لأقتلنك، فإن ذلك جزاء المخالفة في الدين، فاحذرني ولا تتعرض لذلك مني وانته {واهجرني} أي ابعد عني {ملياً} أي زماناً طويلاً لأجل ما صدر منك هذا الكلام، وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى، ويقاسي من قومه من العناء، ومن عمه أبي لهب من الشدائد والبلايا -بأعظم آبائه وأقربهم به شبها..

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{أَرَاغِبٌ أَنتَ عَن آلهتي يا إبراهيم} أي أمُعرضٌ ومنصرفٌ أنت عنها بتوجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجب، كأن الرغبةَ عنها مما لا يصدر عن العاقل فضلاً عن ترغيب الغير عنها..

{لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} تهديدٌ وتحذير عما كان عليه من العِظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما كنت عليه من النهي عن عبادتهم لأرجُمنك بالحجارة، وقيل: باللسان {واهجرني} أي فاحذَرْني واتركني {مَلِيّاً} أي زماناً طويلاً أو ملياً بالذهاب مطيقاً به.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} فتبجح بآلهته [التي هي] من الحجر والأصنام، ولام إبراهيم عن رغبته عنها، وهذا من الجهل المفرط، والكفر الوخيم، يتمدح بعبادة الأوثان، ويدعو إليها.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي، فإذا أبو إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد: (قال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته لأرجمنك. واهجرني مليا). أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم، وكاره لعبادتها ومعرض عنها؟ أو بلغ بك الأمر إلى هذا الحد من الجراءة؟! فهذا إنذار لك بالموت الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف الشنيع: (لئن لم تنته لأرجمنك)! فاغرب عن وجهي وابعد عني طويلا. استبقاء لحياتك إن كنت تريد النجاة: (واهجرني مليا).. بهذه الجهالة تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى. وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب. وذلك شأن الإيمان مع الكفر؛ وشأن القلب الذي هذبه الإيمان والقلب الذي أفسده الكفر.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فصلت جملة: {قال...} لوقوعها في المحاورة كما تقدم في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30). والاستفهام للإنكار إنكاراً لتجافي إبراهيم عن عبادة أصنامهم. وإضافة الآلهة إلى ضمير نفسه إضافة ولاية وانتساب إلى المضاف لقصد تشريف المضاف إليه. وقد جاء في جوابه دعوة ابنه بمنتهى الجفاء والعُنجهية بعكسِ ما في كلام إبراهيم من الليّن والرقة، فدلّ ذلك على أنه كان قاسيَ القلب، بعيد الفهم، شديد التصلّب في الكفر. فدل النظم في هذه الآية على أن أبا إبراهيم ينكر على إبراهيم تمكن الرغبة عن آلهتهم من نفسه، ويهتم بأمر الرغبة عن الآلهة لأنها موضع عَجب. والنداء في قوله {يا إبراهيم} تكملة لجملة الإنكار والتعجب، لأنّ المتعجب من فعله مع حضوره يقصد بندائه تنبيهه على سوء فعله، كأنه في غيبة عن إدراك فعله، فالمتكلم ينزله منزلة الغائب فيناديه لإرجاع رشده إليه، فينبغي الوقف على قوله يا إبراهيم. وجملة {لئن لم تنته لأرجمنك} مستأنفة. واللام موطئة للقسم تأكيداً لكونه راجمهُ إن لم ينته عن كفره بآلهتهم. والرجم: الرمي بالحجارة، وهو كناية مشهورة في معنى القتل بذلك الرمي. وإسنادُ أبي إبراهيم ذلك إلى نفسه يحتمل الحقيقة؛ إما لأنه كان من عادتهم أن الوالد يتحكم في عقوبة ابنه، وإما لأنه كان حاكماً في قومه. ويحتمل المجاز العقلي إذ لعله كان كبيراً في دينهم فيرجم قومُه إبراهيمَ استناداً لحكمه بمروقه عن دينهم. وجملة {واهجرني مليا} عطف على جملة لئن لم تنته لأرجمنك؛ وذلك أنه هدّده بعقوبة آجلة إن لم يقلع عن كفره بآلهتهم، وبعقوبة عاجلة وهي طردهُ من معاشرته وقطع مكالمته. والهجر: قطع المكالمة وقطع المعاشرة، وإنما أمر أبو إبراهيم ابنَه بهجرانه ولم يخبره بأنه هو يهجره ليدلّ على أن هذا الهجران في معنى الطرد والخَلْع إشعاراً بتحقيره.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

أجاب أبوه إجابة المحنق المغيظ لمحاولته ترك عبادة الأوثان وملته وملة آبائه، فقال كما قال تعالى عنه: {قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا}. {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم}، هذا استفهام إنكاري توبيخي من ذلك الأب المخبط وكان موضوع التوبيخ هو انصرافه عن آلهته وبعد عنها، وكأنه يجب أن يكون مثله منغمرا في ضلال، وهو بذلك يضرب صفحا عن كل ما قاله، ويقول بلسان الحال: سمعنا وعصينا وينقلب عليه بالتوبيخ عن تركه له ولملة آبائه المشركين، وقد أكد التوبيخ بالتأكيد بالضمير بقول: {أنت} وفي ذلك تأكيد التوبيخ استصغارا لشأنه، وما كان صغيرا، بل كان الكبير بإدراكه وبدعوته إلى الوحدانية، وهو يستنكر أن يرغب عن آلهته، ولم يتعرض لما يدعو إليه ويرغب فيه، وكأنه معرض عنه وعن أدلته وآياته. هذا إيعاد إن عاد، ثم حسم الأمر بقوله: {واهجرني مليا} وقد تضمن التهديد التحذير، كأنه قال له فاحذرني؛ ولذا عطف على الفعل الذي تضمّنه التهديد بالرجم واهجرني مليا، فهي عطف على الفعل الذي تضمنه التهديد بالرجم. {مليا}، أي ملاوة من الزمن الطويل، ويدعوه أبوه إلى أن يهجره هجرا غير جميل، ولا يهتم بأمره ولا يجالسه ولا يقاربه، وهذه مبالغة في الاستنكار، وقد صم أذنيه عن الحق ولا يريد أن يسمعه.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

ثم يحكي كتاب الله جواب أبيه الذي انطبع بطابع الوثنية والجاهلية، فيبدو جوابه جافيا نابيا، مليئا بالتهديد والوعيد، خاليا من كل حجة أو دليل، اللهم إلا مجرد التقليد الأعمى والرأي السقيم العليل.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الملفت للنظر، أنّ آزر لم يكن راغباً حتى في أن يُجري إِنكار الأصنام أو مخالفتها وتحقيرها على لسانه، بل إِنّه قال: أراغب أنت عن هذه الآلهة؟ حتى لا تهان الأصنام! هذا أولا. ثانياً: إِنّه عندما هدد إِبراهيم، هدده بالرجم، ذلك التهديد المؤكّد الذي يستفاد من لام ونون التوكيد الثقيلة في «لأرجمنَّك» ومن المعلوم أن الرجم من أشد وأسوء أنواع القتل. ثالثاً: إِنّه لم يكتف بهذا التهديد المشروط، بل إِنّه اعتبر إِبراهيم في تلك الحال وجوداً لا يُحتمل، وقال له (اهجرني ملياً) أي ابتعد عني دائماً، وإلى الأبد (كلمة «ملياً» حسب قول الراغب في المفردات أخذت من مادة الإِملاء، أي الإِمهال الطويل، وهي تعني هنا أن ابتعد عني لمدّة طويلة، أو على الدوام). وهذا التعبير المحقِّر جدّاً لا يستعمله إلاّ الأشخاص الأجلاف والقساة ضد مخالفيهم. بعض المفسّرين لا يرى أن جملة «لأرجمنَّك» تعني الرمي بالحجارة، بل اعتقد أنّها تعني تشويه السمعة والاتهام، إِلاّ أن هذا التّفسير يبدو بعيداً، وملاحظة سائر آيات القرآن التي وردت بهذا التعبير شاهد على ما قلناه...