اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

قوله : { أَرَاغِبٌ أَنتَ } : يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون " راغبٌ " مبتدأ ؛ لاعتماده على همزةِ الاستفهام ، و " أنْتَ " فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر .

والثاني : أنه خبر مقدمٌ ، و " أنْتَ " مبتدأ مؤخَّر ، ورُجِّح الأول بوجهين :

أحدهما : أنه ليس فيه تقديمٌ ، ولا تأخير ؛ إذ رتبهُ الفاعل التأخير عن رافعه .

والثاني : أنه لا يلزمُ منه الفصلُ بين العامل ومعموله بما ليس معمولاً للعامل ؛ وذلك أنَّ " عَنْ آلهتي " متعلقٌ ب " رَاغِبٌ " فإذا جعل " أنْتَ " فاعلاً قد فُصِل بما هو كالجزء من العامل ؛ بخلاف جعله خبراً ؛ فإنه أجنبيٌّ ؛ إذ ليس معمولاً ل " راغبٌ " {[21643]} .

فصل فيما قابل به آزر دعوة إبراهيم

اعلم أنَّ إبراهيم- صلوات الله عليه- لمَّا دعا أباهُ إلى التوحيد ، وذكر الدَّلالة على فساد عبادة الأوثان ، وأردف ذلك بالوعظ البليغِ ، مقروناً باللُّطف والرِّفْق قابله أبُوه بجواب [ مضاد ]{[21644]} لذلك ، فقابل حُجَّته بالتَّقليد بقوله : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي } فأصرَّ على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً ، وقابل وعظهُ بالسَّفاهة ؛ حيثُ هدَّده بالضَّرْب والشَّتْم ، وقابل رفقه في قوله { يا أبَتِ } بالعنف ، فلم يَقُلْ له : يا بنيَّ ، بل قال له : يا إبراهيمُ ، وإنَّما حكى الله تبارك وتعالى ذلك لمحمَّدٍ- صلواتُ الله وسلامه عليه- تخفيفاً على قلبه ما كان يصلُ إليه من أذى المشركين ، ويعلمُ أنَّ الجُهَّال منذُ كانوا على هذه السِّيرة المذمومة ، ثم قال : { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } .

قال الكلبيُّ : ومقاتلٌ{[21645]} ، والضحاكُ ، لأشتنمَّك ، ولأبعدنَّك عنِّي بالقول القبيح ، ومنه قوله سبحانه وتعالى : { والذين يَرْمُونَ المحصنات } [ النور : 4 ] ؛ أي : بالشَّتْم ، ومنه : الرَّجيمُ ، أي : المرميُّ باللَّعْن .

قال مجاهدٌ : كلُّ رجمٍ في القرآن بمعنى الشَّتم ، وهذا ينتقضُ بقوله تعالى : { رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] .

وقال ابنُ عبَّاسٍ- رضي الله عنه- : لأضربنَّك{[21646]} .

وقال الحسنُ : لأرجمنَّك بالحجارة وهو قولُ أبي مسلم{[21647]} ؛ لأنَّ أصله الرمي بالرِّجام ، فحمله عليه أولى .

وقال المؤرّج{[21648]} : " أقْتُلَنَّكَ " بلغة قريش ، وممَّا يدلُّ على أنه أراد الطَّرْد ، والإبْعاد قوله : { واهجرني مَلِيّاً } .

قوله تعالى : { مَلِيَّاً } في نصبه ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : أنه منصوبٌ على الظرفِ الزمانيِّ ، أي : زمناً طويلاً ، ومنه " الملوانِ " للَّيلِ والنهار ، وملاوةُ الدَّهر ، بتثليث الميم قال : [ الطويل ]

فَعُسْنَا بِهَا مِنَ الشَّبابِ ملاوةً *** فَلَلْحَجَّ آيَاتُ الرَّسُولِ المُحَبِّبِ{[21649]}

وأنشد السدي على ذلك لمهَلْهَلٍ قال : [ الكامل ]

فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الجبالِ لمَوْتِهِ *** وبَكَتْ عليْه المُرْمِلاتُ مَلِيَّا{[21650]}

أي : أبداً .

والثاني : أنه منصوبٌ على الحال ، معناه : سالماً سويَّا ، قال ابن عباس : [ اعتزلني سالماً ؛ لا يصيبك مني معرة ]{[21651]} فهو حالٌ من فاعل " اهْجُرْنِي " وكذلك فسَّره ابن عطيَّة ؛ قال : " معناه : مستبدَّا ، أي : غنيَّا عني من قولهم : هو مليٌّ بكذا وكذا " قال الزمخشريُّ : " أي : مُطِيقاً " .

والمعنى : مليَّا بالذِّهَابِ عنِّي ، والهجران ، قيل : أن أثخنك بالضَّربِ ؛ حتى لا تقدر أن تبرح .

والثالث : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : هجراً مليَّا ، يعني : واسعاً متطاولاً ؛ كتطاول الزمان الممتدِّ .

قال الكلبيُّ{[21652]} - رحمه الله- اجتنبني طويلاً .

والمراد بقوله : واهجرني ، أي : بالمفارقة من الدَّار والبلدِ ، وهي كهجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أي : تباعد عنِّي ؛ لكي لا أراك .

وقيل : اهجرني [ بالقول ، وعطف " واهجرني " على معطوف عليه محذوف يدل عليه : " لأرجمنك " أي : فاحذرني ، واهجرني ]{[21653]} ؛ لئلا أرجمنك ،


[21643]:هذا الذي ذكره في حالة تطابق الوصف إفرادا أما تطابقا تثنية أو جمعا نحو (أناجحان المحمدان، أناجحون المحمدون) تعين أن يكون الوصف خبرا مقدما وما بعده مبتدأ مؤخرا ولا يجوز العكس من جعل المؤخر مرفوعا بالوصف المقدم وسادّا مسدّ خبره لأن تثنيته وجمعه أبعدته عن شبهه بالفعل؛ لأن الفعل إذا أسند إلى الظاهر تجرد من علامة التثنية والجمع فكذلك الوصف إذا رفع ظاهرا كان حكمه حكم الفعل في لزوم الإفراد على اللغة الفصحى اللهم إلا على لغة من يلحق علامة التثنية والجمع الفعل عند إسناده إلى الظاهر وهي لغة (أكلوني البراغيث). وإن لم يتطابقا وتحته قسمان: ممتنع وجائز فالممتنع مثل (أناجحان محمد، أناجحون علي) لأنا إذا جعلنا ما بعد الوصف فاعلا أغني عن الخبر فالوصف بعد عن شبه الفعل لتثنيته وجمعه فلا يرفع ظاهرا وإذا جعلنا الوصف خبرا مقدما وما بعده مبتدأ مؤخرا فات التطابق الذي هو شرط فيهما ولا يخفى أن هذا التركيب غير صحيح. والجائز نحو (أناجح المحمدان، أناجح المحمدون) وحينئذ يتعين أن يكون الوصف مبتدأ وما بعده سد مسد خبره، ولا يجوز أن يكون ما بعده مبتدأ مؤخرا والوصف خبرا مقدما لأنه لا يجوز أن يخبر عن المثنى والجمع بالمفرد.
[21644]:في ب: مناف.
[21645]:ينظر: معالم التنزيل 3/197.
[21646]:ينظر: المصدر السابق.
[21647]:ينظر: المصدر السابق.
[21648]:ينظر الفخر الرازي 21/195.
[21649]:ينظر البيت في البحر 6/183، الدر المصون 4/510.
[21650]:ينظر البيت في البحر المحيط 6/184، القرطبي 11/75، روح المعاني 16/99، الدر المصون 4/510.
[21651]:سقط من : أ.
[21652]:ينظر: معالم التنزيل 3/197.
[21653]:سقط من أ.