البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

{ قَال } أي أبوه { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } استفهم استفهام إنكار ، والرغبة عن الشيء تركه عمداً وآلهته أصنامه ، وأغلظ له في هذا الإنكار وناداه باسمه ولم يقابل { يا أبت } بيا بني .

قال الزمخشري : وقدم الخبر على المبتدأ في قوله { أراغب أنت عن آلهتي } لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعني وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته ، وإن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد .

وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه انتهى .

والمختار في إعراب { أراغب أنت } أن يكون راغب مبتدأ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام ، و { أنت } فاعل سد مسد الخبر ، ويترجح هذا الإعراب على ما أعربه الزمخشري من كون { أراغب } خبراً و { أنت } مبتدأ بوجهين :

أحدهما : أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ .

والثاني : أن لا يكون فصل بين العامل الذي هو { أراغب } وبين معموله الذي هو { عن آلهتي } بما ليس بمعمول للعامل ، لأن الخبر ليس هو عاملاً في المبتدأ بخلاف كون { أنت } فاعلاً فإن معمول { أراغب } ، فلم يفصل بين { أراغب } ، وبين { عن آلهتي } بأجنبي إنما فصل بمعمول له .

ولما أنكر عليه رغبته عن آلهته توعده مقسماً على إنفاذ ما توعده به إن لم ينته ومتعلق { تنته } محذوف واحتمل أن يكون عن مخاطبتي بما خاطبتني به ودعوتني إليه ، وأن يكون { لئن لم تنته } عن الرغبة عن آلهتي { لأرجمنك } جواب القسم المحذوف قبل { لئن } .

قال الحسن : بالحجارة .

وقيل : لأقتلنك .

وقال السدي والضحاك وابن جريج : لأشتمنك .

قال الزمخشري : فإن قلت : علام عطف { واهجرني } ؟ قلت : على معطوف عليه محذوف يدل عليه { لأرجمنك } أي فاحذرني { واهجرني } لأن { لأرجمنك } تهديد وتقريع انتهى .

وإنما احتاج إلى حذف ليناسب بين جملتي العطف والمعطوف عليه ، وليس ذلك بلازم عند سيبويه بل يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة الإنشائية .

فقوله { واهجرني } معطوف على قوله { لئن لم تنته لأرجمنك } وكلاهما معمول للقول .

وانتصب { ملياً } على الظرف أي دهراً طويلاً قاله الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما ، ومنه الملوان وهما الليل والنهار والملاوة بتثليث حركة الميم الدهر الطويل من قولهم : أمليت لفلان في الأمر إذا أطلت له .

وقال الشاعر :

فعسنا بها من الشباب ملاوة ***فالحج آيات الرسول المحبب

وقال سيبويه : سير عليه مليّ من الدهر ، أي زمان طويل .

وقال ابن عباس وغيره : { ملياً } معناه سالماً سوّياً فهو حال من فاعل { واهجرني } .

قال ابن عطية : وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستنداً بحالك غنياً عني { ملياً } بالاكتفاء .

وقال السدي : معناه أبداً .

ومنه قول مهلهل :

فتصدعت صم الجبال لموته ***وبكت عليه المرملات ملياً

وقال ابن جبير : دهراً ، وأصل الحرف المكث يقال : تمليت حيناً .

وقال الزمخشري : أو { ملياً } بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب ، حتى لا تقدر أن تبرح ، فلان ملي بكذا إذا كان مطيقاً له مضطلعاً به انتهى .