قوله تعالى : { إذ تلقونه } تقولونه ، { بألسنتكم } قال مجاهد ومقاتل : يرويه بعضكم عن بعض . وقال الكلبي : وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا يتلقونه تلقياً ، وكذا قرأه أبي بن كعب ، وقال الزجاج : يلقيه بعضكم إلى بعض ، وقرأ عائشة تلقونه بكسر اللام وتخفيف القاف من الولق وهو الكذب ، { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً } تظنون أنه سهل لا إثم فيه ، { وهو عند الله عظيم } في الوزر .
ثم صور - سبحانه - أحوالهم فى تلك الفترة العصيبة من تاريخ الدعوة الإسلامية فقال : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } . و " إذ " ظرف لقوله - تعالى - { لَمَسَّكُمْ } .
أى : لمسكم عذاب عظيم . وقت تقليكم هذا الحديث السيىء لسانا عن لسان باستخفاف واستهتار ! ويأخذه بعضكم عن بعض بدون تحرج أو تدبر .
{ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } أى : وتقولون بأفواهكم قولا تلوكه الأفواه ، دون أن يكون معه بقية من علم أو بينة أو دليل .
ففى هاتين الجملتين زجر شديد لأولئك الذين خاضوا فى حديث الإفك ، بدون تدبر أو تعقل ، حتى لكأنهم - وقد أفلت منهم الزمام ، واستزلهم الشيطان - ينطقون بما ينطقون به بأفواههم لا بوعيهم ، وبألسنتهم لا بعقولهم ، ولا بقلوبهم ، وإنما هم يتفوهون بكلمات لا علم لهم بحقيقتها .
وهذا كله يتنافى مع ما يقتضيه الإيمان الصحيح من تثبت ومن حسن ظن بالمؤمنين .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما هو أشد فى الزجر والتهديد فقال : { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ } .
أى : وتحسبون أن ما خضتم فيه من كذب على الصديقة بنت الصديق شيئا هينا ، والحال أن ما فعلتموه ليس كذلك ، بل هو عند الله - تعالى - وفى حكمه شىء عظيم ، تضج لهوله الأرض والسماء لأن ما خضتم فيه يسىء إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويسىء إلى أهل بيته ، ويسىء إلى صحابى جليل هو صفوان ، ويسىء إلى بيت الصديق - رضى الله عنه - بل ويسىء إلى الجماعة الإسلامية كلها .
والقرآن يرسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام ؛ واختلت فيها المقاييس ، واضطربت فيها القيم ، وضاعت فيها الأصول :
( إذ تلقونه بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ؛ وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ) . .
وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج ، وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام :
( إذ تلقونه بألسنتكم ) . . لسان يتلقى عن لسان ، بلا تدبر ولا ترو ولا فحص ولا إنعام نظر . حتى لكأن القول لا يمر على الآذان ، ولا تتملاه الرؤوس ، ولا تتدبره القلوب ! ( وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ) . . بأفواهكم لا بوعيكم ولا بعقلكم ولا بقلبكم . إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه ، قبل أن تستقر في المدارك ، وقبل أن تتلقاها العقول . . ( وتحسبونه هينا )أن تقذفوا عرض رسول الله ، وأن تدعوا الألم يعصر قلبه وقلب زوجه وأهله ؛ وأن تلوثوا بيت الصديق الذي لم يرم في الجاهلية ؛ وأن تتهموا صحابيا مجاهدا في سبيل الله . وأن تمسوا عصمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وصلته بربه ، ورعاية الله له . . ( وتحسبونه هينا ) . . ( وهو عند الله عظيم ) . . وما يعظم عند الله إلا الجليل الضخم الذي تزلزل له الرواسي ، وتضج منه الأرض والسماء .
ثم قال تعالى : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } قال مجاهد ، وسعيد بن جبير : أي : يرويه بعضكم عن بعض ، يقول هذا : سمعته من فلان ، وقال فلان كذا ، وذكر بعضهم كذا .
وقرأ آخرون " إِذْ تَلقُونَه بِأَلْسِنَتِكُمْ " . وفي صحيح البخاري عن عائشة : أنها كانت تقرؤها كذلك{[20919]} وتقول : هو مِنْ وَلَق القول . يعني : الكذب الذي يستمر صاحبه عليه{[20920]} ، تقول العرب : وَلَق فلان في السير : إذا استمر فيه{[20921]} ، والقراءة الأولى أشهر ، وعليها الجمهور ، ولكن الثانية مَرْويَّة عن أم المؤمنين عائشة .
قال ابن أبي حاتم : حدَّثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو أسامة ، عن نافع بن عمر{[20922]} ، عن ابن أبي مليكة ، [ عن عائشة أنها كانت تقرأ : " إِذْ تَلقُونَه " وتقول : إنما هو وَلَق القول - والوَلَق : الكذب . قال ابن أبي مليكة{[20923]} ] : هي أعلم به من غيرها .
وقوله : { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي : تقولون ما لا تعلمون .
ثم قال تعالى : { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } أي : تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين ، وتحسبون ذلك يسيرا [ سهلا ]{[20924]} ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هَيِّنا ، فكيف وهي زوجة النبي الأمي ، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ، فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل ! الله يغار لهذا ، وهو سبحانه وتعالى ، لا يُقَدِّر على زوجة نبي من أنبيائه ذلك ، حاشا وكَلا ولما [ لم يكن ذلك ]{[20925]} فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء ، وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة ؟ ! ولهذا قال تعالى { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } ، وفي الصحيحين :
إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله ، لا يدري ما تَبْلُغ ، يهوي بها في النار أبْعَد ما بين السماء والأرض " وفي رواية : " لا يلقي لها بالا " {[20926]} .
{ إذ } ظرف { لمسكم } أو { أفضتم } . { تلقونه بألسنتكم } يأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه يقال تلقى القول كتلقفه وتلقنه ، قرىء " تتلقونه " على الأصل و { تلقونه } من لقيه إذا لقفه و { تلقونه } بكسر حرف المضارعة و { تلقونه } من إلقائه بعضهم على بعض ، و { تلقونه } و " تألقونه " من الألق والألق وهو الكذب ، و " تثقفونه " من ثقفته إذا طلبته فوجدته و " تقفونه " أي تتبعونه . { وتقولون بأفواهكم } أي و تقولون كلاما مختصا بالأفواه بلا مساعدة من القلوب . { ما ليس لكم به علم } لأنه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم كقوله تعالى : { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } . { وتحسبونه هينا } سهلا لا تبعة له . { وهو عند الله عظيم } في الوزر واستجرار العذاب ، فهذه ثلاثة آثام مترتبة علق بها مس العذاب العظيم ، تلقي الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير تحقق واستصغارهم لذلك وهو عند الله عظيم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.