اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذۡ تَلَقَّوۡنَهُۥ بِأَلۡسِنَتِكُمۡ وَتَقُولُونَ بِأَفۡوَاهِكُم مَّا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَيِّنٗا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٞ} (15)

قوله : «إذْ تَلَقَّوْنَهُ » . «إذْ » منصوب ب «مَسَّكُمْ » أو ب «أَفَضْتُمْ » {[34158]} .

وقرأ العامة : «تَلَقَّوْنَهُ »{[34159]} والأصل : تَتَلَقَّوْنَهُ ، فحُذِفَ إحدى التاءين ك «تَنَزَّل »{[34160]} ونحوه ، ومعناه : يَتَلَقَّاهُ بعضكُمْ من بعضٍ .

قال الكلبي : وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول : بلغني كذا وكذا ، يتلقونه تلقياً . {[34161]}

قال الزجاج : يلقيه بعضهم إلى بعض {[34162]} .

والبَزِّي{[34163]} على أصله في أنه يُشَدِّدُ التَّاءَ وَصْلاً{[34164]} ، وتقدم تحقيقه في البقرة نحو «ولا تَيَمَّمُوا »{[34165]} وهو هناك سهل ، لأن ما قبله حرف لين بخلافه هنا {[34166]} .

وأبو عمرو والكسائي وحمزة على أصولهم في إدغام الذال في التاء {[34167]} .

وقرأ أُبيّ : «تَتَلَقَّوْنَهُ » بتاءين{[34168]} ، وتقدم أنها الأصل . وقرأ ابن السميفع في رواية عنه : «تُلْقُونه » بضم التاء وسكون اللام وضم القاف{[34169]} مضارع : ألقى إلقاء .

وقرأ هو في رواية أخرى : «تَلْقَونه » بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف{[34170]} مضارع : لقي . وقرأ ابن عباس وعائشة وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف{[34171]} من ولق الرجل : إذا كذب . قال ابن سيدة{[34172]} : جاءوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي ، وعندي{[34173]} أنه أراد : تلقون فيه ، فحذف الحرف ، ووصل الفعل للضمير{[34174]} ، يعني{[34175]} : أنهم جاءوا ب «تَلَقَّوْنَهُ » وهو متعد مفسراً ب «تكذبون » وهو غير متعد ، ثم حمله على ما ذكر . وقال الطبري{[34176]} وغيره{[34177]} : إن هذه اللفظة مأخوذة من الوَلَق وهو الإسراع بالشيء بعد الشيء ، كعَدْوٍ{[34178]} في إثْر عدو ، وكلامٍ في إثر كلامٍ ، يقال : ولق في سيره أي : أسرع ، وأنشد :

جَاءَتْ بِهِ عِيسٌ مِنَ الشَّامِ تَلِقْ{[34179]} *** . . .

وقال أبو البقاء : أي : يُسْرِعُون فيه ، وأصله من «الولق » وهو الجنون{[34180]} .

وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر : «تَأْلِقُونَهُ » بفتح التاء وهمزة ساكنة ولام مكسورة وقاف مضمومة{[34181]} من «الأَلَق » وهو الكَذِبُ{[34182]} . وقرأ يعقوب{[34183]} : «تِيلَقُونه » بكسر التاء من فوق ، بعدها ياء ساكنة ولام مفتوحة وقاف مضمومة{[34184]} ، وهو مضارع «وَلِق » بكسر اللام ، كما قالوا : «تيجل » مضارع «وَجِل » . وقوله : «بِأَفْوَاهِكمْ » كقوله : «يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ »{[34185]} وقد تقدم .

فصل

اعلم أن الله تعالى وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام ، وعلق مس العذاب العظيم بها .

أحدها : تلقي الإفك{[34186]} بألسنتهم ، وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل يقول له : ما وراءك ؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع واشتهر ، ولم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه . فكأنهم سعوا في إشاعة الفاحشة ، وذلك من العظائم{[34187]} .

وثانيها : أنهم كانوا يتكلمون بما لا علم لهم به ، وذلك يدل على أنه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم ، ونظيره : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }{[34188]} [ الإسراء : 36 ] .

وثالثها : أنهم كانوا يستصغرون ذلك ، وهو عظيمة من العظائم {[34189]} .

وتدل الآية على أن القذف من الكبائر لقوله : { وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ } ، وتدل على أن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه .

ونبه بقوله : «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً » على أن عمل المعصية لا يختلف بظن فاعله وحسبانه ، بل ربما كان ذلك مؤكداً لعظمه{[34190]} .

فإن قيل : ما معنى قوله : «بِأَفوَاهِكُمْ » والقول لا يكون إلاّ بالفم ؟

فالجواب : معناه : أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ، فيترجم عنه باللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم من غير أن يحصل في القلب علم به كقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم{[34191]} مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ{[34192]} }{[34193]} [ آل عمران : 167 ] .


[34158]:من الآية السابقة. انظر الكشاف 3/65، التبيان 2/967.
[34159]:السبعة (454).
[34160]:من قوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر: 4].
[34161]:انظر البغوي 6/81.
[34162]:معاني القرآن وإعرابه 4/38.
[34163]:هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن نافع بن أبي بزة المكي، مقرئ مكة، ومؤذن المسجد الحرام، أستاذ محقق ضابط، مات سنة 250 هـ. طبقات القراء 1/119 – 120.
[34164]:السبعة 454، الكشف 1/314 – 315 الإتحاف 323.
[34165]:من قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} [البقرة: 267].
[34166]:فقيل التاء في البقرة ألف (لا)، وهنا قبلها ذال (إذا).
[34167]:السبعة (453 – 454) تفسير ابن عطية 10/461، الإتحاف (323).
[34168]:المختصر (100)، تفسير ابن عطية 10/461.
[34169]:المحتسب 2/104، تفسير ابن عطية 10/461، البحر المحيط 6/438.
[34170]:البحر المحيط 6/438.
[34171]:"تلقونه". المختصر (100)، المحتسب 2/104، تفسير ابن عطية 10/461، البحر المحيط 6/438.
[34172]:تقدم.
[34173]:في ب: فصل وعند.
[34174]:المحكم 6/350.
[34175]:في ب: معنى.
[34176]:جامع البيان 18/78.
[34177]:منهم ابن جني انظر المحتسب 2/104.
[34178]:في ب: لعدو.
[34179]:رجز قاله القلاخ بن حزن المنقري، وهو في ملحقات ديوان الشماخ (453) ومعاني القرآن للفراء 2/104، المحتسب 2/104، الخصائص 1/90، 3/291، المخصص 3/54، 7/109، المحكم 6/350، تفسير ابن عطية 10/462، ابن يعيش 9/145، اللسان (أنق، زلق، ولق). العيس: الإبل البيض، وروي: (عنس) وهي الناقة القوية. والشاهد فيه قوله: (تلق) فإنه بمعنى تسرع، وهو لازم، ويتعدى بحرف جر محذوف، أي: تلق به.
[34180]:التبيان 2/967.
[34181]:المختصر (100)، البحر المحيط 6/438.
[34182]:قال الفراء: (ويقال في الولق من الكذب: هو الألق والإلق، وفعلت منه: ألقت، وأنتم تألقونه) معاني القرآن 2/248.
[34183]:في رواية المازني.
[34184]:المختصر (100)، البحر المحيط 6/438.
[34185]:[آل عمران: 167]. وذلك أن (الأفواه) جمع (فم) وأصله: (فوه) فلامه هاء بدليل جمعه على أفواه، وتصغيره على فويه، واختلف في وزنه فعند الخليل وسيبويه (فعل) بفتح الفاء وسكون العين، وعند الفراء (فعل) بضم الفاء، حذفوا لامه تخفيفا فصار آخره حرف علة فأبدلوه ميما فصار فم. شرح الأشموني 4/72.
[34186]:في ب: الأول. وهو تحريف.
[34187]:في ب: القطاعة. وهو تحريف.
[34188]:[الإسراء: 36].
[34189]:انظر الفخر الرازي 23/180.
[34190]:انظر الفخر الرازي 23/180 – 181.
[34191]:في الأصل: بأفواهم. وهو تحريف.
[34192]:[آل عمران: 167].
[34193]:انظر الفخر الرازي 23/180.