قوله تعالى : { وعاداً وثمود } يعني : وأهلكنا عاداً وثمود ، { وأصحاب الرس } اختلفوا فيهم ، قال وهب بن منبه : كانوا أهل بئر قعوداً عليها ، وأصحاب مواشي ، يعبدون الأصنام ، فوجه الله إليهم شعيباً يدعوهم إلى الإسلام ، فتمادوا في طغيانهم ، وفي أذى شعيب عليه السلام ، فبينما هم حوالى البئر في منازلهم انهارت بهم البئر ، فخسف الله بهم وبديارهم ورباعهم ، فهلكوا جميعاً . والرس : البئر ، وكل ركية لم تطو بالحجارة والآجر فهو رس . وقال قتادة والكلبي : الرس بئر بأرض اليمامة ، قتلوا نبيهم فأهلكهم الله عز وجل . وقال بعضهم : هم بقية ثمود وقوم صالح ، وهم أصحاب البئر التي ذكر الله تعالى في قوله : { وبئر معطلة وقصر مشيد } وقال سعيد بن جبير : كان لهم نبي يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوه فأهلكهم الله تعالى . وقال كعب ومقاتل والسدي : الرس : بئر بأنطاكية فقتلوا فيها حبيباً النجار ، وهم الذين ذكرهم الله في سورة يس . وقيل : هم أصحاب الأخدود ، والرس هو الأخدود الذي حفروه . وقال عكرمة : هم قوم رسوا نبيهم في بئر . وقيل : الرس المعدن ، وجمعه رساس . { وقروناً بين ذلك كثيراً } أي : وأهلكنا قروناً كثيراً بين عاد وأصحاب الرس .
ثم ذكر - سبحانه - بضع من جاء بعد قوم نوح فقال : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ } أى : ودمرنا وأهلكنا قوم عاد بسبب تكذيبهم لنبيهم هود - عليه السلام- ، كما أهلكنا قوم ثمود بسبب تكذيبهم لنبيهم صالح - عليه السلام - .
وقوله - تعالى - : { وَأَصْحَابَ الرس } معطوف على ما قبله . أى : وأهلكنا أصحاب الرس . كما أهلكنا من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود .
والرس فى لغة العرب : البئر التى لم تبن بالحجارة ، وقيل : البئر مطلقا ، ومنه قول الشاعر :
وهم سائرون إلى أرضهم . . . فياليتهم يحفرون الرساسا
أى : فيا ليتهم يحفرون الآبار .
وللمفسرين فى حقيقة أصحاب الرس أقوال : فمنهم من قال إنهم من بقايا قبيلة ثمود ، بعث الله إليهم نبيا فكذبوه ورَسُّوه فى تلك البئر أى : ألقوا به فيها ، فأهلكهم الله - تعالى - .
وقيل : هم قومه كانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم شعيبا - عليه السلام - فكذبوه فبينما هم حول الرس - أى البئر - فانهارت بهم ، وخسف الله - تعالى - بهم الأرض . وقيل : الرس بئر بأنطاكية ، قتل أهلها حبيبا النجار وألقوه فيها . . .
واختار ابن جرير - رحمه الله - أن أصحاب الرس هم أصحاب الأخدود ، الذين ذكروا فى سورة البروج .
وقد ذكر بعض المفسرين فى شأنهم روايات ، رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها نكارتها .
واسم الإشارة فى قوله - تعالى - : { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } يعود إلى عاد وثمود وأصحاب الرس ، والقرون : جمع قرن .
والمراد به هنا : الجيل من الناس الذين اقترنوا فى الوجود فى زمان واحد من الأزمنة .
أى : وأهلكنا قرونا كثيرة بين قوم عاد وثمود وأصحاب الرس . لأن تلك القرون سارت على شاكلة أمثالهم من الكافرين والفاسقين .
وقوله : { وَعَادًا وَثَمُودَ } قد{[21523]} تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة ، منها في سورة " الأعراف " بما أغنى عن الإعادة{[21524]} .
وأما أصحاب الرس فقال ابن جُرَيْج ، عن{[21525]} ابن عباس : هم أهل قرية من قرى ثمود .
وقال ابن جريج : قال عكرمة : أصحاب الرَسّ بفَلَج وهم أصحاب يس . وقال قتادة : فَلَج من قرى اليمامة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم [ النبيل ]{[21526]} ، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد أبو عاصم ، حدثنا شبيب بن بشر{[21527]} ، حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله : { وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } قال : بئر بأذربيجان .
وقال سفيان الثوري عن أبي بُكَيْر{[21528]} ، عن عكرمة : الرس بئر رَسوا فيها نبيهم . أي : دفنوه بها{[21529]} .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن كعب [ القرظي ]{[21530]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود ، وذلك أن الله - تعالى وتبارك - بعث نبيا{[21531]} إلى أهل قرية ، فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود ، ثم إن أهل القرية عدَوا على النبي ، فحفروا له بئرا فألقوه فيها ، ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم{[21532]} قال : " فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ، ويشتري به طعاما وشرابا ، ثم يأتي به إلى تلك البئر ، فيرفع تلك الصخرة ، ويعينه الله عليها ، فيدلي إليه طعامه وشرابه ، ثم يردها كما كانت " . قال : " فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ، ثم إنه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع ، فجمع حطبه وحَزم وفرغ منها فلما أراد أن يحتملها وجد سنة ، فاضطجع فنام ، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً ، ثم إنه هَبّ فتمطى ، فتحول لشقه الآخر فاضطجع ، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى ، ثم إنه هب واحتمل حُزْمَته ولا يحسبُ إلا أنه نام ساعة من نهار{[21533]} فجاء إلى القرية فباع حزمته ، ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع . ثم ذهب{[21534]} إلى الحفيرة في موضعها الذي كانت فيه ، فالتمسه فلم يجده . وكان قد بدا لقومه فيه بَداء ، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه " . قال :
فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود : ما فعل ؟ فيقولون له : لا ندري . حتى قبض الله النبي ، وَأهبّ الأسودَ من نومته بعد ذلك " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن ذلك الأسودَ لأولُ من يدخل الجنة " .
وهكذا رواه ابن جرير{[21535]} عن ابن حميد ، عن سلمة عن ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب مرسلا . وفيه غرابة ونَكارَةٌ ، ولعل فيه إدْرَاجاً ، والله أعلم . وأما ابن جرير فقال : لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس الذين ذكروا في القرآن ؛ لأن الله أخبر عنهم أنه أهلكهم ، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم ، اللهم إلا أن يكون حدث لهم أحداث ، آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم ، والله أعلم .
واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود ، الذين ذكروا في سورة البروج ، فالله أعلم .
وقوله : { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } أي : وأمما بين أضعاف مَنْ ذُكر أهلكناهم كثيرة ؛ ولهذا قال : { وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ }
{ وعادا وثمود } عطف على هم في { جعلناهم } أو على " الظالمين " لأن المعنى ووعدنا الظالمين ، وقرأ حمزة وحفص " وثمود " على تأويل القبيلة . { وأصحاب الرس } قوم كان يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم شعيبا فكذبوه ، فبينما هم حول الرس وهي البئر الغير المطوية فانهارت فخسف بهم وبديارهم . وقيل { الرس } قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود فبعث إليهم نبي فقتلوه فهلكوا . وقيل الأخدود وقيل بئر بانطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبي ابتلاهم الله تعالى بطير عظيم كان فيها من كل لون ، وسموها عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتخ أو دمخ وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إذا أعوزها الصيد ، ولذلك سميت مغربا فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم أنهم قتلوه فأهلكوا . وقيل هم قوم كذبوا نبيهم ورسوه أي دسوه في بئر . { وقرونا } وأهل أعصار قيل القرن أربعون سنة وقيل سبعون وقيل مائة وعشرون . { بين ذلك } إشارة إلى ما ذكر . { كثيرا } لا يعلمها إلا الله .