{ بلى قادرين } أي نقدر ، استقبال صرف إلى الحال ، قال الفراء { قادرين } نصب على الخروج من نجمع ، كما تقول في الكلام أتحسب أن لا نقوى عليك ؟ بلى قادرين على أقوى منك ، يريد : بل قادرين على أكثر من ذا . مجاز الآية : بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك ، وهو { على أن نسوي بنانه } أنامله ، فنجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخف البعير وحافر الحمار ، فلا يرتفق بها بالقبض والبسط والأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وغيرها . هذا قول أكثر المفسرين . وقال الزجاج وابن قتيبة : معناه : ظن الكافر أن لا نقدر على جمع عظامه ، بلى نقدر على أن نعيد السلاميات على صغرها ، فنؤلف بينها حتى نسوي البنان ، فمن قدر على جمع صغار العظام فهو على جمع كبارها أقدر .
وقوله - سبحانه - : { بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } تأكيد لقدرته - تعالى - على إحياء الموتى بعد أن صاروا عظاما نخرة ، وإبطال لنفيهم إحياء العظام وهى رميم .
و { قَادِرِينَ } حال من فاعل الفعل المقدر بعد بلى . وقوله : { نُّسَوِّيَ } من التسوية ، وهى تقويم الشئ وجعله متقنا مستويا ، يقال : سوى فلان الشئ إذا جعله متساويا لا عوج فيه ولا اضطراب .
والبنان : جمع بنانة ، وهى أصابع اليدين والرجلين ، أو مفاصل تلك الأصابع وأطرافها .
أى : ليس الأمر كما زعم هؤلاء المشركين من أننا لا نعيد الإِنسان إلى الحياة بعد موته للحساب والجزاء ، بل الحق أننا سنجمعه وسنعيده إلى الحياة حالة كوننا قادرين قدرة تامة ، على هذا الجمع لعظامه وجسده ، وعلى جعل أصابعه وأطرافه وأنامله مستوية الخلق ، متقنة الصنع ، كما كانت قبل الموت .
وخصت البنان بالذكر ، لأنها أصغر الأعضاء ، وآخر ما يتم به الخلق ، فإذا كان - سبحانه - قادرا على تسويتها مع لطافتها ودقتها ، فهو على غيرها مما هو أكبر منها أشد قدرة .
والقرآن يرد على هذا الحسبان بعدم جمع العظام مؤكدا وقوعه : ( بلى ! قادرين على أن نسوي بنانه ) . . والبنان أطراف الأصابع ؛ والنص يؤكد عملية جمع العظام ، بما هو أرقى من مجرد جمعها ، وهو تسوية البنان ، وتركيبه في موضعه كما كان ! وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما فيه ، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان ، ولا تختل عن مكانها ، بل تسوى تسوية ، لا ينقص معها عضو ولا شكل هذا العضو ، مهما صغر ودق !
{ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } قال سعيد بن جُبَير والعَوفي ، عن ابن عباس : أن نجعله{[29543]} خُفّا أو حافرًا . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وابن جرير . ووجَّهه ابنُ جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا .
والظاهر من الآية أن قوله : { قَادِرِينَ } حال من قوله : { نَجْمَعَ } أي : أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه ؟ بلى سنجمعها قادرين على أن نُسَوِّي بنانه ، أي : قدرتنا صالحة لجمعها ، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان ، فتجعل بنانه - وهي أطراف أصابعه - مستوية . وهذا معنى قول ابن قتيبة ، والزجاج .
وقوله : أيَحْسَبُ الإنْسانُ أَلّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ يقول تعالى ذكره : أيظنّ ابن آدم أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرّقها ، بلى قادرين على أعظم من ذلك ، أن نسويَ بنانه ، وهي أصابع يديه ورجليه ، فنجعلها شيئا واحدا كخفّ البعير ، أو حافر الحمار ، فكان لا يأخذ ما يأكل إلا بفيه كسائر البهائم ، ولكنه فرق أصابع يديه يأخذ بها ، ويتناول ويقبض إذا شاء ويبسط ، فحسن خلقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي الخير بن تميم ، عن سعيد بن جُبير ، قال : قال لي ابن عباس : سل ، فقلت : أيَحْسَبُ الإنْسانُ أَلّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ على أنْ نُسَوّيَ بَنانَهُ قال : لو شاء لجعله خفا أو حافرا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله بَلى قادِرِينَ على أنْ نُسَوّيَ بَنانَهُ قال : أنا قادر على أن أجعل كفه مجمّرة مثل خفّ البعير .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، عن إسرائيل ، عن مغيرة ، عمن حدثه ، عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس بَلى قادِرِينَ على أنْ نُسَوّيَ بَنانَهُ قال : نجعله خفا أو حافرا .
قال : ثنا وكيع ، عن النضر ، عن عكرِمة على أنْ نُسَوّيَ بَنانَهُ قال : على أن نجعله مثل خُفّ البعير ، أو حافر الحمار .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : بَلى قادِرِينَ على أنْ نُسَوّيَ بَنانَهُ قال : جعلها يدا ، وجعلها أصابع يقبضهنّ ويبسطهنّ ، ولو شاء لجمعهنّ ، فاتقيت الأرض بفيك ، ولكن سوّاك خلقا حسنا . قال أبو رجاء : وسُئل عكرِمة فقال : لو شاء لجعلها كخفّ البعير .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : على أنْ نُسَوّيَ بَنانَهُ رجليه ، قال : كخفّ البعير فلا يعمل بهما شيئا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : بَلى قادِرِينَ على أنْ نُسَوّيَ بَنانَهُ قادر والله على أن يجعل بنانه كحافر الدابة ، أو كخفّ البعير ، ولو شاء لجعله كذلك ، فإنما ينقي طعامه بفيه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله على أنْ نُسَوّيَ بَنانَهُ قال : لو شاء جعل بنانه مثل خفّ البعير ، أو حافر الدابة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله على أنْ نُسَوّيَ بَنانَهُ قال : البنان : الأصابع ، يقول : نحن قادرون على أن نجعل بنانه مثل خفّ البعير .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قادِرِينَ فقال بعضهم : نصب لأنه واقع موقع نفعل ، فلما ردّ إلى فاعل نصب ، وقالوا : معنى الكلام : أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بل نقدر على أن نسوّي بنانه ثم صرف نقدر إلى قادرين . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : نصب على الخروج من نجمع ، كأنه قيل في الكلام : أيحسب أن لن نقوَى عليه ؟ بل قادرين على أقوى منك . يريد : بلى نقوى مقتدرين على أكثر من ذا . وقال : قول الناس بل نقدر ، فلما صرفت إلى قادرين نصبت خطأ ، لأن الفعل لا ينصب بتحويله من يفعل إلى فاعل . ألا ترى أنك تقول : أتقوم إلينا ، فإن حوّلتها إلى فاعل قلت : أقائم ، وكان خطأ أن تقول قائما قال : وقد كانوا يحتجون بقول الفرزدق :
عَلَى قَسَمٍ لا أشْتُمُ الدّهْرَ مُسْلِما *** وَلا خارِجا مِنْ فِيّ زُورُ كَلام
فقالوا : إنما أراد : لا أشتم ولا يخرج ، فلما صرفها إلى خارج نصبها ، وإنما نصب لأنه أراد : عاهدت ربي لاشاتما أحدا ، ولا خارجا من فيّ زور كلام وقوله : لا أشتم ، في موضع نصب . وكان بعض نحويي البصرة يقول : نصب على نجمع : أي بل نجمعها قادرين على أن نسوّي بنانه ، وهذا القول الثاني أشبه بالصحة على مذهب أهل العربية .
ثم قال تعالى : { بلى } وهي إيجاب ما نفي ، وبابها أن تأتي بعد النفي والمعنى بل يجمعها { قادرين } بنصب { قادرين } على الحال . وقرأ ابن أبي عبلة «قادرون » بالرفع ، وقال القتبي : { نسوي بنانه } معناه نتقنها سوية ، والبنان : الأصابع ، فكأن الكفار لما استبعدوا جمع العظام بعد الفناء والإرمام ، قيل لهم إنما تجمع ويسوى أكثرها تفرقاً أجزاء وهي عظام الأنامل ومفاصلها ، وهذا كله عند البعث ، وقال ابن عباس وجمهور المفسرين : { نسوي بنانه } معناه نجعلها في حياته هذه بضعة أو عظماً واحداً كخف البعير لا تفاريق فيه ، فكأن المعنى قادرين لأن في الدنيا على أن نجعلها دون تفرق ، فتقل منفعته بيده ، فكأن التقدير { بلى } نحن أهل أن نجمعها { قادرين } على إزالة منفعة بيده ، ففي هذا توعد ما ، والقول الأول أحرى مع رصف الكلام ، ولكن على هذا القول جمهور العلماء{[11464]} .
و { بَلَى } حرف إبطال للنفي الذي دل عليه { لن نجمع عظامه } فمعناه بل تجمع عظامه على اختلاف المحملين في معنى الجمع .
و { قادرين } حال من الضمير في الفعل المحذوف بعد { بَلَى } الذي يدل عليه قوله : { أن لن نجمع ، } أي بل نجمعها في حال قدرتنا على أن نُسوي بَنانه .
ويجوز أن يكون { بلى } إبطالاً للنفيين : النفي الذي أفاده الاستفهام الإِنكاري من قوله { أيحسب الإِنسان } والنفي الذي في مفعول { يحسب } ، وهو إبطال بزجر ، أي بَل لِيحسِبْنا قادرين ، لأن مفاد { أن لَنْ نجمع عظامه } أن لا نقدر على جمع عظامه فيكون { قادرين } مفعولاً ثانياً لِيَحْسِبْنَا المقدر ، وعدل في متعلق { قادرين } عن أن يقال : قادرين على جمع عظامه إلى قادرين على أن نسوي بنانه لأنه أوفر معنى وأوفق بإرادة إجمال كيفية البعث والإِعادة .
ولمراعاة هذه المعاني عُدل عن رفع : قادرون ، بتقدير : نحن قادرون ، فلم يقرأ بالرفع .
والتسوية : تقويم الشيء وإتقان الخلْق قال تعالى : { ونفسٍ وما سَواها } [ الشمس : 7 ] وقال في هذه السورة : { فخَلَق فسوى } [ القيامة : 38 ] . وأريد بالتسوية إعادة خلق البنان مقوَّمة متقنة ، فالتسوية كناية عن الخلق لأنها تستلزمه فإنه ما سُوِّيَ إلاّ وقد أُعيد خلقه قال تعالى : { الذي خلق فسوى } [ الأعلى : 2 ] .
والبَنان : أصابع اليدين والرجلين أو أطرافُ تلك الأصابع . وهو اسم جمع بَنانَةٍ .
وإذ كانت هي أصغر الأعضاء الواقعة في نهاية الجسد كانت تسويتها كناية عن تسوية جميع الجسد لظهور أن تسْوية أطراف الجسد تقتضي تسوية ما قبلها كما تقول : قَلعتْ الريح أوتادَ الخيمة كناية عن قلعها الخيمة كلَّها فإنه قد يكنَّى بأطراف الشيء عن جميعه .
ومنه قولهم : لك هذا الشيء بأسره ، أي مع الحبْل الذي يشد به ، كناية عن جميع الشيء . وكذلك قولهم : هوَ لك برُمته ، أي بحبله الذي يشد به .