البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ} (4)

وجواب القسم محذوف يدل عليه يوم القيامة المقسم به وما بعده من قوله : { أيحسب } الآية ، وتقديره لتبعثن .

وقال الزمخشري : فإن قلت : قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون } والأبيات التي أنشدتها المقسم عليه فيها منفي ، وكان قد أنشد قول امرىء القيس :

لا وأبيك ابنة العامري *** لا يدعي القوم إني أفرّ

وقول غوية بن سلمى :

ألا نادت أمامة باحتمالي *** لتحزنني فلا بك ما أبالي

قال : فهلا زعمت أن لا التي للقسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له ، وقدرت المقسم عليه المحذوف ههنا منفياً ، نحو قولك : { لا أقسم بيوم القيامة } ، لا تتركون سدى ؟ قلت : لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ ، ولكنه لم يقسم .

ألا ترى كيف لقي { لا أقسم بهذا البلد } بقوله : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } وكذلك { فلا أقسم بمواقع النجوم } { إنه لقرآن كريم } ثم قال الزمخشري : وجواب القسم ما دل عليه قوله : { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } ، وهو لتبعثن . انتهى ، وهو تقدير النحاس .

وقول من قال جواب القسم هو : { أيحسب الإنسان } .

وما روي عن الحسن أن الجواب : { بلى قادرين } ، وما قيل أن لا في القسمين لنفيهما ، أي لا أقسم على شيء ، وأن التقدير : أسألك أيحسب الإنسان ؟ أقوال لا تصلح أن يرد بها ، بل تطرح ولا يسود بها الورق ، ولولا أنهم سردوها في الكتب لم أنبه عليها .

والإنسان هنا الكافر المكذب بالبعث .

روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن به ، أويجمع الله هذه العظام بعد بلاها ، فنزلت .

وقيل : نزلت في أبي جهل ، كان يقول : أيزعم محمد صلى الله عليه وسلم أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها فيعيدها خلقاً جديداً ؟

وقرأ الجمهور : { نجمع } بنون ، { عظامه } نصباً ؛ وقتادة : بالتاء مبنياً للمفعول ، عظامه رفعاً ، والمعنى : بعد تفرّقها واختلاطها بالتراب وتطيير الرياح إياها في أقاصي الأرض .

وقوله : { أيحسب } استفهام تقرير وتوبيخ ، حيث ينكر قدرة الله تعالى على إعادة المعدوم .

{ بلى } : جواب للاستفهام المنسحب على النفي ، أي بلى نجمهعا .

وذكر العظام ، وإن كان المعنى إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة ، لأن العظام هي قالب الخلق .

وقرأ الجمهور : { قادرين } بالنصب على الحال من الضمير الذي في الفعل المقدر وهو يجمعها ؛ وابن أبي عبلة وابن السميفع : قادرون ، أي نحن قادرون .

{ على أن نسوي بنانه } : وهي الأصابع ، أكثر العظام تفرّقاً وأدقها أجزاء ، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها ، وهذا عند البعث .

وقال ابن عباس والجمهور : المعنى نجعلها في حياته هذه بعضة ، أو عظماً واحداً كخف البعير لا تفاريق فيه ، أي في الدنيا فتقل منفعته بها ، وهذا القول فيه توعد ، والمعنى الأول هو الظاهر والمقصود من رصف الكلام .

وذكر الزمخشري هذين القولين بألفاظ منمقة على عادته في حكاية أقوال المتقدمين .

وقيل : { قادرين } منصوب على خبر كان ، أي بلى كنا قادرين في الابتداء .