الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ} (4)

" بلى " وقف حسن ثم تبتدئ " قادرين " . قال سيبويه : على معنى نجمعها قادرين ، " فقادرين " حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه من التقدير . وقيل : المعنى بل نقدر قادرين . قال الفراء : " قادرين " نصب على الخروج من " نجمع " أي نقدر ونقوى " قادرين " على أكثر من ذلك . وقال أيضا : يصلح نصبه على التكرير أي " بلى " فليحسبنا قادرين . وقيل : المضمر ( كنا ) أي كنا قادرين في الابتداء ، وقد اعترف به المشركون . وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع " بلى قادرون " بتأويل نحن قادرون . " على أن نسوي بنانه " البنان عند العرب : الأصابع ، واحدها بنانة ، قال النابغة :

بمُخَضَّبٍ رَخْصٍ كأن بنَانَهُ *** عَنَمٌ يكادُ من اللَّطَافَةٍ يُعْقَدِ{[15603]}

وقال عنترة :

وأن الموت طوعُ يدي إذا ما *** وصلت بنَانَها بالهِنْدُوَانِي

فنبه بالبنان على بقية الأعضاء . وأيضا فإنها أصغر العظام ، فخصها بالذكر لذلك .

قال القتبي والزجاج : وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام ، فقال الله تعالى : بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها ، ونؤلف بينها حتى تستوي ، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر . وقال ابن عباس وعامة المفسرين : المعنى " على أن نسوي بنانه " أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير ، أو كحافر الحمار ، أو كظلف الخنزير ، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا ، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء . وكان الحسن يقول : جعل لك أصابع فأنت تبسطهن ، وتقبضهن بهن ، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الأرض إلا بكفيك . وقيل : أي نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم ، فكيف في صورته التي كان عليها ، وهو كقوله تعالى : " وما نحن بمسبوقين . على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون " [ الواقعة :61 ] .

قلت : والتأويل الأول أشبه بمساق الآية . والله أعلم .


[15603]:رواية الشطر الأخير كما في اللسان: * عنم على أغصانه لم يعقد * والعنم: شجر لين الأغصان لطيفها، يشبه به البنان.