قوله تعالى : { والأرض مددناها } ، بسطناها على وجه الماء ، يقال : إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها دحيت من تحت الكعبة ، { وألقينا فيها رواسي } ، جبالا ثوابت ، وقد كانت الأرض تميد إلى أن أرساها الله بالجبال ، { وأنبتنا فيها } ، أي : في الأرض ، { من كل شيء موزون } ، مقدر معلوم . وقيل : يعني في الجبال ، وهي جواهر من الذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها ، حتى الزرنيخ والكحل كل ذلك يوزن وزنا . وقال ابن زيد : هي الأشياء التي توزن وزناً .
وبعد أن بين - سبحانه - بعض الدلائل السماوية الدالة على قدرته ووحدانيته ، أتبع ذلك ببيان بعض الدلائل الأرضية فقال - تعالى - : { والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } . وقوله : { رواسى } من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة . يقال رسا الشئ يرسو أى ثبت .
أى : ومن الأدلة - أيضاً - على وحدانيتنا وقدرتنا ، أننا مددنا الأرض وفرشناها وبسطناها ، لتتيسر لكم الحياة عليها قال - تعالى - { والأرض فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون } وأننا - أيضاً وضعنا فيها جبالاً ثوابت راسخات تمسكها عن الاضطراب وعن أن تميد بكم . قال - تعالى - : { خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ . . . } وأننا - أيضًا - أنبتنا في الأرض من كل شيء { موزون } أى : مقدر بمقدار معين وموزون بميزان الحكمة ، بحيث تتوفر فيه كل معانى الجمال والتناسق .
قال - تعالى - : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }
والخط الثاني في اللوحة العريضة الهائلة هو خط الأرض الممدودة أمام النظر ، المبسوطة للخطو والسير ؛ وما فيها من رواس ، وما فيها من نبت وأرزاق للناس ولغيرهم من الأحياء :
( والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي ، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون . وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين ) . .
إن ظل الضخامة واضح في السياق . فالإشارة في السماء إلى البروج الضخمة - تبدو ضخامتها حتى في جرس كلمة( بروج )وحتى الشهاب المتحرك وصف من قبل بأنه( مبين ) . . والإشارة في الأرض إلى الرواسي - ويتجسم ثقلها في التعبير بقوله : ( وألقينا فيها رواسي ) . وإلى النبات موصوفا بأنه( موزون ) وهي كلمة ذات ثقل ، وإن كان معناها أن كل نبت في هذه الأرض في خلقه دقة وإحكام وتقدير . .
ثم ذكر ، تعالى ، خلقه الأرض ، ومده إياها وتوسيعها وبسطها ، وما جعل فيها من الجبال الرواسي ، والأودية والأراضي والرمال ، وما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة .
وقال ابن عباس : { مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ } أي : معلوم . وكذا قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، وأبو مالك ، ومجاهد ، والحكم بن عُتَيبة{[16107]} والحسن بن محمد ، وأبو صالح ، وقتادة .
وقال ابن زيد : من كل شيء يُوزَن{[16108]} ويقدر بقدر . وقال ابن زيد : ما تزنه [ أهل ]{[16109]} الأسواق .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَيْءٍ مّوْزُونٍ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : والأرْضَ مَدَدْناها والأرض دحوناها فبسطناها ، وألْقَيْنا فِيها رَوَاسِيَ يقول : وألقينا في ظهورها رواسيَ ، يعني جبالاً ثابتة كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : والأرْضَ مَدَدْناها ، وقال في آية أخرى : والأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها وذُكر لنا أن أمّ القرى مكة ، منها دُحيت الأرض .
قوله : وألقينا فِيها رَوَاسيَ رواسيها : جبالها . وقد بيّنا معنى الرسوّ فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته . وقوله : وأنْبَتْنَا فِيها مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ يقول : وأنبتنا في الأرض من كلّ شيء يقول : من كلّ شيء مقدّر ، وبحدّ معلوم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وأنْبَتْنَا فِيها مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ يقول : معلوم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ يقول : معلوم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، أو عن أبي مالك ، في قوله : مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قال : بقدر .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح أو عن أبي مالك ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن عكرمة : مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قال : بقدْر .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عليّ ، يعني ابن الجعد ، قال : أخبرنا شريك ، عن خصيف ، عن عكرمة : مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قال : بقدْر .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، قال : بقدْر .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن حصين ، عن سعيد بن جبير : مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قال : معلوم .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا عبد الله بن يونس ، قال : سمعت الحكم بن عتيبة وسأله أبو مخزوم عن قوله : مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قال : من كلّ شيء مقدور .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا عبد الله بن يونس ، قال : سمعت الحكم ، وسأله أبو عروة عن قول الله عزّ وجلّ : مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قال : من كلّ شيء مقدور . هكذا قال الحسن : وسأله أبو عروة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قال : مقدور بقدْر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قال : مقدور بقدْر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عليّ بن الهيثم ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : مقدور بقدْر .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عليّ بن الهيثم ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح : مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قال : بقدْر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ يقول : معلوم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ يقول : معلوم .
وكان بعضهم يقول : معنى ذلك وأنبتنا في الجبال من كلّ شيء موزون يعني من الذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحو ذلك من الأشياء التي توزن . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأنْبَتْنا فِيهامِنْ كُلّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ قال : الأشياء التي توزن .
وأولى القولين عندنا بالصواب القول الأوّل لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه .