روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ} (19)

{ والارض مددناها } بسطناها ، قال الحسن : أخذ الله تعالى طينة فقال لها : انبسطي فانبسطت ، وعن قتادة أنه قال : ذكر لنا أن أم القرى مكة ونها دحيت الأرض وبسطت ، وعن ابن عباس أنه قال : بسطناها على وجه الماء ، وقيل : يحتمل أن يكون المراد جعلناها ممتدة في الجهات الثلاث الطول والعرض والعمق ، والظاهر أن المراد بسطها وتوسعتها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها ولا يلزم من ذلك نفي كرويتها لما أن الكرة العظيمة لعظمها ترى كالسطح المستوي ، ونصب { الارض } على الحذف على شرطية التفسير وهو في مثل ذلك أرجح من الرفع على الابتداء للعطف على الجملة الفعلية أعني قوله تعالى : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا } [ الحجر : 16 ] الخ وليواقف ما بعده أعني قوله سبحانه : { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي } أي جبالاً ثوابت جمع راسية جمع رأس على ما قيل ، وقد بين حكمة إلقاء ذلك فيها في قوله سبحانه : { وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] .

قال ابن عباس : إن الله تعالى لما بسط الأرض على الماء مالت كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميل بأهلها ، وقد تقدم الكلام في ذلك .

وزعم بعضهم( {[505]} ) أنه يجوز أن يكون المراد أنه تعاى فعل ذلك لتكون الجبال دالة على طرق الأرض ونواحيها فلا تميد الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال ، ثم قال ؛ وهذا الوجه ظاهر الاحتمال . وأنت تعلم أنه لا يسوغ الذهاب إليه مع وجود أخبار تأباه كالجبال { وَأَنبَتْنَا فِيهَا } أي في الأرض ، وهي إما شاملة للجبال لأنها تعد منها أو خاصة بغيرها لأن أكثر النبات وأحسنه في ذلك .

وجوز أن يكون الضمير للجبال والأرض بتأويل المذكورات مثلاً أو للأرض بمعنى ما يقابل السماء بطريق الاستخدام ، وعوده على الرواسي لقربها وحمل الانبات على إخراج المعادن بعيد { مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ } أي مقدر بمقدار معين تقتضيه الحكمة فهو مجاز مستعمل في لازم معناه أو كناية أو من كل شيء مستحسن متناسب من قولهم : كلام موزون ، وأنشد المرتضى في درره لهذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة .

وحديث ألذه وهو مما . . . تشتهيه النفوس يوزن وزناً

وقد شاع استعمال ذلك في كلام العجم والمولدين فيقولون : قوام موزون أي متناسب معتدل ، أو ما له قدر واعتبار عند الناس في أبواب النعمة والمنفعة ، وقال ابن زيد : المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة وغيرهما ، و { مِنْ } كما في البحر للتبعيض ، وقال الأخفش : هي زائدة أي كل شيء .

( ومن باب الإشارة ) :{ والأرض مددناها وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ } [ الحجر : 19 ] إشارة إلى أنه تعالى بسط بأنوار تجلى جماله وجلاله سبحانه أرض قلوب أولياه حتى أن العرش وما حوى بالنسبة إليها كحلقة في فلاة بل دون ذلك بكثير ، وفي الخبر : «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن » ثم أنه تعال لما تجلى عليها تزلزلت من هيبته فألقى عليها رواسي السكينة فاستقرت وأنبت فيها بمياه بحار زلال نور غيبه من جميع نباتات المعارف والكواشف والمواجيد والحالات والمقامات والآداب وكل من ذلك موزون بميزان علمه وحكمته .

وقال بعضهم : نفوس العابدين أرض العبادة وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة ، والرواسي الرجاء والخوف والرغبة والرهبة ، والأزهار الأنوار التي أشرقت فيها من نور اليقين ونور العرفان ونور الحضور ونور الشهود ونور التوحيد إلى غير ذلك ، وقيل : أشير بالأرض إلى أرض النفس أي بسطنا أرض النفس بالنور القلبي وألقينا فيها رواسي الفضائل وأنبتنا فيها كل شيء من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية والملكان الفاضلة والإدراكات الحسية معين مقدر بميزان الحكمة والعدل


[505]:- هو الإمام الرازي اهـ منه.