مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلۡأَرۡضَ مَدَدۡنَٰهَا وَأَلۡقَيۡنَا فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡزُونٖ} (19)

{ والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين }

اعلم أنه تعالى لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التوحيد . أتبعها بذكر الدلائل الأرضية ، وهي أنواع :

النوع الأول : قوله تعالى : { والأرض مددناها } قال ابن عباس بسطناها على وجه الماء ، وفيه احتمال آخر ، وذلك لأن الأرض جسم ، والجسم هو الذي يكون ممتدا في الجهات الثلاثة ، وهي الطول والعرض والثخن ، وإذا كان كذلك ، فتمدد جسم الأرض في هذه الجهات الثلاثة مختص بمقدار معين لما ثبت أن كل جسم فإنه يجب أن يكون متناهيا . وإذا كان كذلك كان تمدد جسم الأرض مختصا بمقدار معين مع أن الازدياد عليه معقول ، والانتقاص عنه أيضا معقول ، وإذا كان كذلك كان اختصاص ذلك التمدد بذلك القدر المقدر مع جواز حصول الأزيد والأنقص اختصاصا بأمر جائز . وذلك يجب أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر ، وهو الله سبحانه وتعالى .

فإن قيل : هل يدل قوله : { والأرض مددناها } على أنها بسيطة ؟

قلنا : نعم لأن الأرض بتقدير كونها كرة ، فهي كرة في غاية العظمة ، والكرة العظيمة يكون كل قطعة صغيرة منها ، إذا نظر إليها ، فإنها ترى كالسطح المستوي ، وإذا كان كذلك زال ما ذكروه من الإشكال ، والدليل عليه قوله تعالى : { والجبال أوتادا } سماها أوتادا مع أنه قد يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية ، فكذا ههنا .

النوع الثاني : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : { وألقينا فيها رواسي } وهي الجبال الثوابت ، واحدها راسي ، والجمع راسية ، وجمع الجمع رواسي ، وهو كقوله تعالى : { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم } وفي تفسيره وجهان :

الوجه الأول : قال ابن عباس : لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال لكيلا تميل بأهلها .

فإن قيل : أتقولون إنه تعالى خلق الأرض بدون الجبال فمالت بأهلها فخلق فيها الجبال بعد ذلك أو تقولون إن الله خلق الأرض والجبال معا .

قلنا : كلا الوجهين محتمل .

والوجه الثاني : في تفسير قوله : { وألقينا فيها رواسي } يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال وهذا الوجه ظاهر الاحتمال .

النوع الثالث : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } وفيه بحثان :

البحث الأول : أن الضمير في قوله : { وأنبتنا فيها } يحتمل أن يكون راجعا إلى الأرض وأن يكون راجعا إلى الجبال الرواسي ، إلا أن رجوعه إلى الأرض أولى لأن أنواع النبات المنتفع بها إنما تتولد في الأراضي ، فأما الفواكه الجبلية فقليلة النفع ، ومنهم من قال : رجوع ذلك الضمير إلى الجبال أولى ، لأن المعادن إنما تتولد في الجبال ، والأشياء الموزونة في العرف والعادة هي المعادن لا النبات .

البحث الثاني : اختلفوا في المراد بالموزون وفيه وجوه :

الوجه الأول : أن يكون المراد أنه متقدر بقدر الحاجة . قال القاضي : وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى يعلم المقدار الذي يحتاج إليه الناس وينتفعون به فينبت تعالى في الأرض ذلك المقدار ، ولذلك أتبعه بقوله :