معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ مِثۡلَ قَوۡلِهِمۡۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (113)

قوله تعالى : { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } . نزلت في يهود المدينة ونصارى أهل نجران ، وذلك أن وفد نجران لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود : فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت لهم اليهود ، ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بعيسى والإنجيل ، وقالت لهم النصارى ، ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بموسى والتوراة فانزل الله تعالى :

قوله : { وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب } . وكلا الفريقين يقرؤون الكتاب قيل : معناه ليس في كتبهم هذا الاختلاف فدل تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم ما فيه على كونهم على الباطل .

قوله تعالى : { كذلك قال الذين لا يعلمون } . يعني : آباءهم الذين مضوا .

قوله تعالى : { مثل قولهم } . قال مجاهد : يعني : عوام النصارى ، وقال مقاتل : يعني مشركي العرب ، كذلك قالوا في نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إنهم ليسوا على شيء من الدين . وقال عطاء : أمم كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام قالوا لنبيهم : إنه ليس على شيء . قوله تعالى : { فالله يحكم بينهم يوم القيامة } . يقضي بين الحق والمبطل .

قوله تعالى : { فيما كانوا فيه يختلفون } . من الدين .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ مِثۡلَ قَوۡلِهِمۡۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (113)

ثم بين القرآن بعد ذلك أن أهل الكتاب قد دأبوا على تضليل بعضهم البعض ، وأن الخلاف بينهم قد أدى إلى التنازع والتخاصم فقال : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى . . . }

الآية الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } إلخ ، لزيادة بيان طبيعة أهل الكتاب ، المعوجة ، وأن رمي المخالف لهم بأنه ضال شنشنة فيهم .

والشيء : يطلق على الموجود ، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، وقد ينفى مبالغة في عدم الاعتداد به واليهود كفرت عيسى - عليه السلام - ومازالوا يزعمون أن المسيح المبشر به في التوارة لم يأت ، وسيأتي بعد ، فهم يعتقدون أن النصارى باتباعهم له ليسوا على أمر حقيقي من التدين ، والنصارى تكفر اليهود لعدم إيمانهم بالمسيح الذي جاء لإتمام شريعتهم ، ونشأ عن هذه النزاع عداوة اشتدت بها الأهواء والتعتصب حتى صار كل فريق منهم يطعن في دين الآخر ، وينفى عنه أن يكون له أصل من الحق .

وجملة { وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب } حالية ، والكتاب للجنس . أي : قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب ، إذ اليهود يقرءون والنصارى يقرءون الإِنجيل ، وحق من حمل التوارة والإِنجيل وغيرهما من كتب الله وآمن به ألا يكفر بالباقي ، لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني ، شاهد بصحته وكذلك كتب الله جميعاً متواردة على تصديق بعضها البعض .

وقوله : { كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } معناه : كما أن أهل الكتاب قد قال كل فريق منهم فيمن خالفه إنه ليس على شيء من الدين الحق . فكذلك قال الذين لا يعلمون ، وهم مشركوا العرب ، في شأن المسلمين . إنهم ليسوا على شيء من الدين الحق ، فتشابهت قلوب هؤلاء وقلوب أولئك في الزيغ والضلال .

والهدف الذي ترمى إليه هذه الجملة ، هو أن إنكار اليهود والنصارى لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يثيير شبهة على عدم صحتها ، حيث يسبق إلى أذهان الضعفاء من الناس أن تلاوتهم للكتاب تجعهلم أعرف بالنبوة الصادقة من غيرها . فكأن القرآن يقول : إن تلاوتهم للكتاب وحدها لا ينبغي أن تكون شبهه .

ألا ترون اليهود والنصارى وهم يتلون الكتاب كيف أنكر كل فريق منهما أن يكون الآخر على شيء حقيقي من التدين ، فسبيلهم في إنكار دين الإِسلام كسبيل المشركين الذين أنكروه عن جهالة به .

وفي هذه الجملة توبيخ شديد لأهل الكتاب ، حيث نظموا أنفسهم - مع علمهم - في سلك من لا يعلم .

وقوله : { فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . صدر بالفاء ، لأن التوعد بالحكم بينهم يوم القيامة ، وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والضلال ، متفرع عن هذه المقالات ومسبب عنها ، وهو خبر المقصود منه التوبيخ والوعيد .

والضمير المجرور بإضافة بين إليه راجع إلى الفرق الثلاث ، وما كانوا فيه يختلفون يعم ما ذكر وغيره وقيل الضمير يعود على اليهود والنصارى .

والاختلاف : تقابل رأيين فيما ينبغي انفراد الرأي فيه .

ولم تصرح الآية الكريمة بماذا يحكم الله بينهم ، لأنهن من المعلوم أن من مظاهر حكم الله يوم القيامة إثابة من كان على حق ، وعقاب من كان على باطل .

وبذلك تكون الآية الكريمة قد فضحت أهل الكتاب ، حيث بينت كيف أن كل فريق منهم قد رمى صاحبه بالضلال ، وفي هذا تثبيت للمؤمنين ونهى لهم عن أن ينهجوا نهجهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ مِثۡلَ قَوۡلِهِمۡۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (113)

104

ولقد كانوا - يهودا ونصارى - يطلقون تلك الدعوى العريضة ، بينما يقول كل منهما عن الفريق الآخر إنه ليس على شيء ؛ وبينما كان المشركون يجبهون الفريقين بالقولة ذاتها :

( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء - وهم يتلون الكتاب - كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) . .

والذين لا يعلمون هم الأميون العرب الذين لم يكن لهم كتاب ؛ وكانوا يرون ما عليه اليهود والنصارى من الفرقة ومن التقاذف بالإتهام ، ومن التمسك بخرافات وأساطير لا ترتفع كثيرا على خرافات العرب وأساطيرهم في الشرك ونسبة الأبناء - أو البنات - لله سبحانه ؛ فكانوا يزهدون في دين اليهود ودين النصارى ويقولون : إنهم ليسوا على شيء !

والقرآن يسجل على الجميع ما يقوله بعضهم في بعض ؛ عقب تفنيد دعوى اليهود والنصارى في ملكية الجنة ! ثم يدع أمر الخلاف بينهم إلى الله :

( فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) .

فهو الحكم العدل ، وإليه تصير الأمور . . وهذه الإحالة إلى حكم الله هي وحدها المجدية في مواجهة قوم لا يستمدون من منطق ، ولا يعتمدون على دليل ، بعد دحض دعواهم العريضة في أنهم وحدهم أهل الجنة ، وأنهم وحدهم المهديون !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ مِثۡلَ قَوۡلِهِمۡۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (113)

وقوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } يبين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم . كما قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رافع بن حُرَيْملة{[2535]} ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى وبالإنجيل . وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء . وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة . فأنزل الله في ذلك من قولهما{[2536]} { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } قال : إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به ، أي : يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة ، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى ، وما جاء{[2537]} من التوراة من عند الله ، وكل يكفر بما في يد{[2538]} صاحبه .

وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء .

وقال قتادة : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ } قال : بلى ، قد كانت أوائل النصارى على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا . { وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } قال : بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا .

وعنه رواية أخرى كقول أبي العالية ، والربيع بن أنس في تفسير{[2539]} هذه الآية : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى . ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه ، مع علمهم بخلاف ذلك ؛ ولهذا قال تعالى : { وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ } أي : وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل ، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت ، ولكن تجاحدوا فيما بينهم عنادًا وكفرًا{[2540]} ومقابلة للفاسد بالفاسد ، كما تقدم عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة في الرواية الأولى عنه في تفسيرها ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } يُبَيِّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا من القول ، وهذا من باب الإيماء والإشارة . وقد اختلف فيما عنى بقوله تعالى : { الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ }

فقال الربيع بن أنس وقتادة : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } قالا وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم . وقال ابن جُرَيج : قلت لعطاء : من هؤلاء الذين لا يعلمون ؟ قال : أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل . وقال السدي : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } فهم : العرب ، قالوا : ليس محمد على شيء .

واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع ، وليس ثمَّ دليل قاطع يعين واحدًا من هذه الأقوال ، فالحمل على الجميع أولى ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : أنه تعالى يجمع{[2541]} بينهم يوم المعاد ، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة . وهذا كقوله تعالى في سورة الحج : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ الحج : 17 ] ، وكما قال تعالى : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [ سبأ : 26 ] .


[2535]:في أ: "بن خزيمة".
[2536]:في جـ: "من قوله".
[2537]:في أ، و: "جاء به".
[2538]:في جـ، ط، ب: "بما في يدي".
[2539]:في أ، و: "في تفسيره".
[2540]:في جـ: "كفرا وعنادا".
[2541]:في أ: "يحكم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ مِثۡلَ قَوۡلِهِمۡۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (113)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النّصَارَىَ عَلَىَ شَيْءٍ ، وَقَالَتِ النّصَارَىَ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ، كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ، فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }

قال أبو جعفر : ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتابين تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم لبعض . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قالا جميعا : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رافع بن حريملة : ما أنتم على شيء وكفر بعيسى بن مريم وبالإنجيل . فقال رجل من أهل نجران من النصارى : ما أنتم على شيء وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة . فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك من قولهما : { وَقالَتِ اليَهودُ لَيْسَتِ النّصَارَى على شَيْءٍ وَقالَتِ النّصارى لَيْسَتِ اليَهُودُ على شَيْءٍ } إلى قوله : { فيما كانوا فيه يختلفون } .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وقالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النّصارَى على شيْءٍ وَقالَتِ النّصارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ على شَيْءٍ } قال : هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم .

وأما تأويل الآية ، فإن قالت اليهود : ليست النصارى في دينها على صواب ، وقالت النصارى : ليست اليهود في دينها على صواب .

وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين إعلاما منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله ، وجحودهم مع ذلك ما أنزل الله فيه من فروضه لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيقته النصارى يحقق ما في التوراة من نبوّة موسى عليه السلام وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض ، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيقتها اليهود تحقق نبوّة عيسى عليه السلام وما جاء به من عند الله من الأحكام والفرائض . ثم قال كل فريق منهم للفريق الاَخر ما أخبر الله عنهم في قوله : { وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النّصارَى على شَيْءٍ وقالت النّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ على شَيْءٍ } مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك . فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون ، وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون .

فإن قال لنا قائل : أَوَ كانت اليهود والنصارى بعد أن بعث الله رسوله على شيء ، فيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الاَخر مبطلاً في قيله ما قال من ذلك ؟ قيل : قد روينا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس قَبْلُ ، مِنْ أن إنكار كل فريق منهم إنما كان إنكارا لنبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، الذي ينتحل التصديق به ، وبما جاء به الفريق الاَخر ، لا دفعا منهم أن يكون الفريق الاَخر في الحال التي بعث الله فيها نبينا صلى الله عليه وسلم على شيء من دينه ، بسبب جحوده نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الاَخر على شيء بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وكلا الفريقين كان جاحدا نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحال التي أنزل الله فيها هذه الآية ؟ ولكن معنى ذلك : وقالت اليهود : ليست النصارى على شيء من دينها منذ دانت دينها ، وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء منذ دانت دينها . وذلك هو معنى الخبر الذي رويناه عن ابن عباس آنفا . فكذّب الله الفريقين في قيلهما ما قالا . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النّصَارَى على شَيْءٍ } قال : بلى قد كانت أوائل النصارى على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرّقوا وقالت النصارى : ليست اليهود على شيء . ولكن القوم ابتدعوا وتفرّقوا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : { وقالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النّصَارَى على شَيْءٍ وقَالَتِ النّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيْءٍ } قال : قال مجاهد : قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء .

وأما قوله : { وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتابَ } فإنه يعني به كتاب الله التوراة والإنجيل ، وهما شاهدان على فريقي اليهود والنصارى بالكفر ، وخلافهم أمر الله الذي أمرهم به فيه . كما :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قالا جميعا : حدثنا ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتابَ ، كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُون مِثْلَ قَوْلِهِمُ } ، أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به : أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام ، وفي الإنجيل مما جاء به عيسى تصديق موسى ، وما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يد صاحبه .

القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } .

اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله : كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ، فقال بعضهم بما :

حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ }قال : وقالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم .

حدثنا بشر بن سعيد ، عن قتادة : { قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } قال : قالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم . وقال آخرون بما :

حدثنا به القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قلت لعطاء : من هؤلاء الذين لا يعلمون ؟ قال : أمم كانت قبل اليهود والنصارى ، وقبل التوراة والإنجيل .

وقال بعضهم : عَنَى بذلك مشركي العرب ، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب فنسبوا إلى الجهل ، ونفى عنهم من أجل ذلك العلم . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { كَذَلِكَ قال الّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } ، فهم العرب قالوا : ليس محمد صلى الله عليه وسلم على شيء .

والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله أخبر تبارك وتعالى عن قوم وصفهم بالجهل ، ونفى عنهم العلم بما كانت اليهود والنصارى به عالمين أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال اليهود والنصارى بعضها لبعض مما أخبر الله عنهم أنهم قالوه في قوله : { وَقالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النّصَارَى على شَيْءٍ وَقالَتِ النّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ على شَيْءٍ } . وجائز أن يكونوا هم المشركين من العرب ، وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل اليهود والنصارى . ولا أمة أولى أن يقال هي التي عنيت بذلك من أخرى ، إذ لم يكن في الآية دلالة على أيَ من أيَ ، ولا خبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل ولا من جهة النقل المستفيض .

وإنما قصد الله جل ثناؤه بقوله : { كَذَلِكَ قالَ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } إعلام المؤمنين أن اليهود والنصارى قد أتوا من قيل الباطل ، وافتراء الكذب على الله ، وجحود نبوّة الأنبياء والرسل ، وهم أهل كتاب يعلمون أنهم فيما يقولون مبطلون ، وبجحودهم ما يجحدون من ملتهم خارجون ، وعلى الله مفترون مثل الذي قاله أهل الجهل بالله وكتبه ورسله الذين لم يبعث الله لهم رسولاً ولا أوحى إليهم كتابا .

وهذه الآية تنبىء عن أن من أتى شيئا من معاصي الله على علم منه بنهي الله عنها ، فمصيبته في دينه أعظم من مصيبة من أتى ذلك جاهلاً به لأن الله تعالى ذكره عظم توبيخ اليهود والنصارى بما وبّخهم به في قيلهم ما أخبر عنهم بقوله : { وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النّصَارَى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ على شَيْءٍ } من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك على علم منهم أنهم مبطلون .

القول في تأويل قوله تعالى : { فاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .

يعني بذلك جل ثناءه : فالله يقضي فيفصل بين هؤلاء المختلفين القائل بعضهم لبعض : لستم على شيء من دينكم يوم قيام الخلق لربهم من قبورهم ، فيتبين المحقّ منهم من المبطل بإثابة المحقّ ما وعد أهل طاعته على أعماله الصالحة ومجازاته المبطل منهم بما أوعد أهل الكفر به على كفرهم به فيما كانوا فيه يختلفون من أديانهم ومللهم في دار الدنيا .

وأما القيامة فهي مصدر من قول القائل : قمت قياما وقيامةً ، كما يقال : عدت فلانا عيادةً ، وصنت هذا الأمر صيانةً . وإنما عنى بالقيامة : قيام الخلق من قبورهم لربهم ، فمعنى يوم القيامة : يوم قيام الخلائق من قبورهم لمحشرهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ مِثۡلَ قَوۡلِهِمۡۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (113)

{ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } أي على أمر يصح ويعتد به . نزلت لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأتاهم أحبار اليهود فتناظروا وتقاولوا بذلك . { وهم يتلون الكتاب } الواو للحال ، والكتاب للجنس أي : قالوا ذلك وهم من أهل العلم والكتاب . { كذلك } مثل ذلك { قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } كعبدة الأصنام ، والمعطلة . وبخهم على المكابره والتشبه بالجهال . فإن قيل : لم وبخهم وقد صدقوا ، فإن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء ؟ قلت : لم يقصدوا ذلك ، وإنما قصد به كل فريق إبطال دين الآخر من أصله ، والكفر بنبيه وكتابه مع أن ما لم ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل به { فالله يحكم } يفصل { بينهم } بين الفريقين { يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العقاب . وقيل حكمه بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ مِثۡلَ قَوۡلِهِمۡۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (113)

وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 113 )

اختلف من المراد بقوله { لا يعلمون } ، فقال الجمهور : عنى بذلك كفار العرب ، لأنهم لا كتاب لهم ، وقال عطاء : المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى ، وقال قوم : المراد اليهود ، وكأنه أعيد قولهم( {[1140]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وأخبر تعالى بأنه { يحكم بينهم } ، والمعنى بأن يثيب من كان على شيء ، أي شيء حق ، ويعاقب من كان على غير شيء ، وقال الزجاج : المعنى يريهم عياناً من يدخل الجنة ومن يدخل النار و { يوم القيامة } سمي بقيام الناس من القبور ، إذ ذلك مبد لجميع مبدأ في اليوم وفي الاستمرار بعده ، وقوله { كانوا } بصيغة الماضي حسن على مراعاة الحكم ، وليس هذا من وضع الماضي موضع المستقبل لأن اختلافهم ليس في ذلك اليوم ، بل في الدنيا .


[1140]:- اختار الإمام (ط) رحمه الله أن الآية عامة تصلح للجميع، وليس ثم دليل قاطع يعين واحدا من هذه الأقوال، فالحمل على الجميع أولى.