اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ مِثۡلَ قَوۡلِهِمۡۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (113)

اليهودُ ملَّة معروفة ، والياء فيه أصلية لثبوتها في التَّصريف ، وليست من مادّة " هود " من قوله تعالى : { هُوداً أَوْ نَصَارَى } [ البقرة : 111 ] وقد تقدم أن الفراء رحمه الله تعالى يدعي أن " هُوداً " أصله : يَهُود ، فحذفت ياؤه ، وتقدم أيضاً عند قوله تعالى : { وَالَّذِينَ هَادُواْ } [ البقرة : 62 ] أن اليهود نسبة ل " يهوذا بن يَعْقُوب " .

وقال الشَّلَوْبِينُ : يهود فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون جمع يَهُودِيّ ، فتكون نكرة مصروفةً .

والثاني : أن تكون عَلَماً لهذه القبيلة ، فتكون ممنوعةً من الصرف . انتهى ، وعلى الأول دخلت الألف واللام ، وعلى الثاني قوله : [ الطويل ]

742- أُولَئِكَ أَوْلَى مِنْ يَهُودَ بِمِدْحَةٍ *** إِذَا أَنْتَ يَوْماً قُلْتَهَا لَمْ تُؤَنَّبِ

وقال آخر : [ الكامل ]

743- فَرّتْ يَهُودُ وَأَسْلَمَتْ جِيرَانُهَا *** . . . 

ولو قيل بأن " يهود " منقول من الفعل المُضَارع نحو : يزيد ويشكر لكان قَوْلاً حسناً . ويؤيده قولهم : سمّوا يهوداً لاشتقاقهم من هَادَ يَهُودُ إذا تحرك .

قوله تعالى : " لَيْسَت النَّصَارَى " " ليس " فعل ناقص أبداً من أخوات " كان " ولا يتصرف ، ووزنه على " فَعِل " بكسر العين ، وكان من حق فائه أن تكسر إذا أسند إلى تاء المتكلم ونحوها على الياء مثل : شئت ، إلا أنه لما لم ينصرف بقيت " الفاء " على حالها .

وقال بعضهم : " ليست " بضم الفاء ، ووزنه على هذه اللغة : فَعُل بضم العين ، ومجيء فَعُل بضمّ العين فيما عينه ياء نادر ، لم يجئ منه إلاَّ " هيؤ الرجل " ، إذا حسنت هيئته .

وكون " ليس " فعلاً هو الصحيح خلافاً للفارسي في أحد قوليه ، ومن تابعه في جعلها حرفاً ك " ما " كما قيل ويدلّ على فعليتها اتصال ضمائر الرَّفْع البارزة بها ، ولها أحكام كثيرة ، و " النَّصَارى " اسمها ، و " عَلَى شَيْءٍ " خبرها ، وهذا يحتمل أن يكون مما حذفت فيه الصفة ، أي على شيء معتدّ به كقوله سبحانه وتعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] أي : أهلك الناجين ، وقوله : [ الطويل ]

744- . . . *** لَقَدْ وَقَعْتِ عَلَى لَحْمِ

أي : لحم عظيم ، وأن يكون نفياً على سبيل المُبَالغة ، فإذا نفى إطلاق الشيء على ما هم عليه ، مع أن الشيء يُطْلق على المعدوم عند بعضهم كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به ، وصار كقوله : " أقل من لا شيء " .

فصل في سبب نزول هذه الآية

روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود ، فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم ، فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين ، وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل .

وقالت النصارى لهم نحوه ، وكفروا بموسى عليه السَّلام والتوراة ، فأنزل الله هذه الآية .

واختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله تعالى أَهُمُ الذين كانوا زمن بعثة عيسى عليه السلام أو في زمن محمد عليه السلام ؟

[ فإن قيل : كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانوا يثبتون الصَّانع وصفاته سبحانه ، وذلك قول فيه فائدة ؟

والجواب عندهم من وجهين :

الأول : أنهم لما ضمّوا إلى ذلك القول الحسن قَوْلاً باطلاً يحبط ثواب الأول ، فكأنهم لم يأتوا بذلك الحق .

الثَّاني : أن يخص هذا العام بالأمور التي اختلفوا فيها ، وهي ما يتّصل بإثبات الثَّوَاب ] .

قوله تعالى : " وَهُمْ يَتْلُونَ " جملة حالية ، وأصل يتلون : يَتْلُوُونَ فأعلّ بحذف " اللاَّم " ، وهو ظاهر .

و " الكِتَابَ " اسم جنس ، أي قالوا ذلك حال كونهم من أهل العلوم والتلاوة من كتب ، وحَقُّ من حمل التوراة ، أو الإنجيل ، أو غيرهما من كتب الله ، وآمن به ألاَّ يكفر بالباقي ؛ لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني شاهد لصحته .

قوله : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } في هذه الكاف قولان :

أحدهما : أنها في محلّ نصب ، وفيها حينئذ تقديران :

أحدهما : أنها نعت لمصدر محذوف قدم على عامله ، تقديره : قولاً مثل ذلك القول [ الذي قال أي قال القول ] الذين لا يعلمون .

[ الثاني : أنها في محلّ نصب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه . قال : تقديره : مثل ذلك القول قاله أي : قال القول الذين لا يعلمون ] حال كونه مثل ذلك القول ، وهذا رأي سيبويه رحمه الله ، والأول رأي النُّحَاة ، كما تقدم غير مرة ، وعلى هذين القولين ففي نصب " مِثْلَ قَوْلِهِمْ " وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على البدل من موضع الكاف .

الثاني من الوجهين : أنه مفعول به العامل فيه " يَعْلَمُونَ " ، أي : الذين لا يعلمون مثل مَقَالة اليهود ، والنَّصَارى قالوا مثل مقالتهم ، أي : أنهم قالوا ذلك على سبيل الاتِّفاق ، وإن كانوا جاهلين بمقالة اليَهُود والنصارى .

الثاني من القولين : أنها في محلّ رفع بالابتداء ، والجملة بعدها خبر ، والعائد محذوف تقديره : [ مثل ذلك قاله الذين لا يعلمون .

وانتصاب " مِثْلَ قَوْلِهِمْ " حينئذ إما على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو مفعول ب " يعلمون " تقديره ] مثل قول اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى ، ولا يجوز أن ينتصب نصب المفعول يقال لأنه أخذ مفعوله ، وهو العائد على المبتدأ ، ذكر ذلك أبو البقاء ، وفيه نظر من وجهين :

أحدهما : أن الجمهور يأبى جعل الكاف اسماً .

والثاني : حذف العائد المنصوب ، [ والنحاة ] ينصُّون على منعه ، ويجعلون قوله : [ السريع ]

745- وَخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنا *** بِالْحَقِّ لاَ يُحْمَدُ بَالْبَاطِلِ

ضرورة .

[ وللكوفيين في هذا تفصيلٌ ] .

فصل في المراد بالذين لا يعلمون

قوله تعالى : { قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } يقتضي أن من تقدم ذكره يجب أن يكون عالماً لكي يصح هذا الفرق .

واختلفوا في { الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } فقال مقاتل رحمه الله : إنهم مشركو العرب قالوا في نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إنهم ليسوا على شيء من الدين ، فبيّن تعالى أنه إذا كان قول اليهود والنَّصَارى ، وهم يقرؤون الكتاب لا يلتفت إليه فقول كفار العرب أولى ألاَّ يلتفت إليه .

وقال مجاهد : عوام النصارى فَصْلاً بين خواصهم وعوامهم .

وقال عطاء : أسماء كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح ، وقوم هود وصالح ، ولوط وشعيب ، قالوا لنبيهم : إنه ليس على شيء .

وقيل : إن حملنا قوله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ } على الحاضرين في زمن صلى الله عليه وسلم حملنا قوله : { وقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } على المُعَاندين المتقدمين ويحتمل العكس .

قوله : { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : قال الحسن : يكذبهم جميعاً ، ويدخلهم النار .

وثانيها : ينصف المظلوم المكذَّب من الظالم المكذِّب .

وثالثها : يريهم من يدخل الجنة عياناً ، ومن يدخل النار عياناً ، وهو قول " الزجاج " .

قوله : { بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } منصوبان ب " يحكم " ، و " فيه " متعلق ب " يَخْتَلِفُونَ " .