البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ مِثۡلَ قَوۡلِهِمۡۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (113)

اليهود : ملة معروفة ، والياء أصلية ، فليست مادة الكملة مادة هود من قوله : { هوداً أن نصارى } ، لثبوتها في التصريف يهده .

وأما هوّده فمن مادة هود .

قال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين ، وهو الإمام الذي انتهى إليه علم اللسان في زمانه : يهود فيها وجهان ، أحدهما : أن تكون جمع يهودي ، فتكون نكرة مصروفة .

والثاني : أن تكون علماً لهذه القبيلة ، فتكون ممنوعة الصرف .

انتهى كلامه .

وعلى الوجه الأول دخلته الألف واللام فقالوا : اليهود ، إذ لو كان علماً لما دخلته ، وعلى الثاني قال الشاعر :

أولئك أولى من يهود بمدحة *** إذا أنت يوماً قلتها لم تؤنب

ليس : فعل ماض ، خلافاً لأبي بكر بن شقير ، وللفارسي في أحد قوليه ، إذ زعما أنها حرف نفي مثل ما ، ووزنها فعل بكسر العين .

ومن قال : لست بضم اللام ، فوزنها عنده فعل بضم العين ، وهو بناء نادر في الثلاثي اليائي العين ، لم يسمع منه إلا قولهم : هيؤ الرجل ، فهو هيىء ، إذا حسنت هيئته .

وأحكام ليس كثيرة مشروحة في كتب النحو .

الحكم : الفصل ، ومنه سمي القاضي : الحاكم ، لأنه يفصل بين الخصمين .

الاختلاف : ضد الاتفاق .

{ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } ، قيل : المراد عامة اليهود وعامة النصارى ، فهذا من الإخبار عن الأمم السالفة ، وتكون أل للجنس ، ويكون في ذلك تقريع لمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفريقين ، وتسلية له صلى الله عليه وسلم ، إذ كذبوا بالرسل وبالكتب قبله .

وقيل : المراد يهود المدينة ونصارى نجران ، حيث تماروا عند الرسول وتسابوا ، وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوّة عيسى ، وأنكرت النصارى التوراة ونبوّة موسى .

فتكون حكاية حال ، وأل للعهد ، أو المراد بذلك رجلان : رجل من اليهود ، يقال له نافع بن حرملة ، قال لنصارى نجران : لستم على شيء ، وقال رجل من نصارى نجران لليهود : لستم على شيء ، فيكون قد نسب ذلك للجميع ، حيث وقع من بعضهم ، كما يقال : قتل بنو تميم فلاناً ، وإنما قتله واحد منهم ، وذلك على سبيل المجاز والتوسع ، ونسبة الحكم الصادر من الواحد إلى الجمع .

وهو طريق معروف عند العرب في كلامها ، نثرها ونظمها .

ولما جمعهم في المقالة الأولى ، وهي : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } ، فصلهم في هذه الآية ، وبين قول كل فريق في الآخر .

وعلى شيء : في موضع خبر ليس ، ويحتمل أن يكون المعنى : على شيء يعتد به في الدين ، فيكون من باب حذف الصفة ، نظير قوله :

لقد وقعت على لحم***

أي لحم منيع ، وأنه ليس من أهلك ، أي من أهلك الناجين ، لأنه معلوم أن كلاً منهم على شيء ، أو يكون ذلك نفياً على سبيل المبالغة العظيمة ، إذ جعل ما هما عليه ، وإن كان شيئاً كلا شيء .

هذا والشيء يطلق عند بعضهم على المعدوم والمستحيل ، فإذا نفى إطلاق اسم الشيء على ما هم عليه ، كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به ، وصار كقولهم أقل من لا شيء .

{ وهم يتلون الكتاب } : جملة حالية ، أي وهم عالمون بما في كتبهم ، تالون له .

وهذا نعي عليهم في مقالتهم تلك ، إذ الكتاب ناطق بخلاف ما يقولونه ، شاهدة توراتهم ببشارة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وصحة نبوّتهما .

وإنجيلهم شاهد بصحة نبوة موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، إذ كتب الله يصدق بعضها بعضاً .

وفي هذا تنبيه لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم في أن من كان عالماً بالقرآن ، يكون واقفاً عنده ، عاملاً بما فيه ، قائلاً بما تضمنه ، لا أن يخالف قوله ما هو شاهد على مخالفته منه ، فيكون في ذلك كاليهود والنصارى .

والكتاب هنا قيل : هو التوراة والإنجيل .

وقيل : التوراة ، لأن النصارى تمتثلها .

{ كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } : الذين لا يعلمون : هم مشركو العرب في قول الجمهور .

وقيل : مشركو قريش .

وقال عطاء : هم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى .

وقال قوم : المراد اليهود ، وكأنه أعيد قولهم : أي قال اليهود مثل قول النصارى ، ونفى عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فجعلوا لا يعلمون .

والظاهر القول الأول .

وقال الزمخشري : أي مثل ذلك الذي سمعت على ذلك المنهاج .

قال : الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب ، كعبدة الأصنام ، والمعطلة ونحوهم قالوا : لكل أهل دين ليسوا على شيء ، وهو توبيخ عظيم لهم ، حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم .

والظاهر أن الكاف من كذلك في محل نصب ، إما على أنها نعت لمصدر محذوف تقديره : قولاً مثل ذلك القول ، { قال الذين لا يعلمون } ، أو على أنه منصوب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه قال ، التقدير : مثل ذلك القول قاله ، أي قال القول الذين لا يعلمون ، وهذا على رأي سيبويه .

وعلى الوجهين تنتصب الكاف بقال ، وانتصب على هذين التقديرين مثل قولهم على البدل من موضع الكاف .

وقيل : ينتصب مثل قولهم على أنه مفعول بيعلمون ، أي الذين لا يعلمون مثل مقالة اليهود والنصارى ، قالوا : مثل : مقالتهم ، أي توافق الذين لا يعلمون مقالات النصارى ، واليهود مع اليهود والنصارى في ذلك ، أن من جهل قول اليهود والنصارى وافقهم في مثل ذلك القول .

وجوّزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء ، والجملة بعده خبر ، والعائد محذوف تقديره : مثل ذلك قاله الذين .

ولا يجوز لقال أن ينصب مثل قولهم نصب المفعول ، لأن قال قد أخذ مفعوله ، وهو الضمير المحذوف العائد على المبتدأ ، فينتصب إذ ذاك مثل قولهم على أنه صفة لمصدر محذوف ، أو على أنه مفعول ليعلمون ، أي مثل قولهم يعني اليهود والنصارى .

قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى .

انتهى ما قالوه في هذا الوجه ، وهو ضعيف لاستعمال الكاف اسماً ، وذلك عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، مع أنه قد تؤوّل ما ورد من ذلك وأجاز ذلك ، أعني أن تكون اسماً في الكلام ، ويحذف الضمير العائد على المبتدأ المنصوب بالفعل ، الذي لو قدر خلوه من ذلك الضمير لتسلط على الظاهر قبله فنصبه ، وذلك نحو : زيد ضربته .

نص أصحابنا على أن هذا الضمير لا يجوز حذفه إلا في الشعر ، وأنشدوا :

وخالد يحمد ساداتنا *** بالحق لا يحمد بالباطل

أي : يحمده ساداتنا .

وعن بعض الكوفيين في جواز حذف نحو : هذا الضمير تفصيل مذكور في النحو .

{ فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا في يختلفون } : أي يفصل ، والفصل : الحكم ، أو يريهم من يدخل الجنة عياناً ، ومن يدخل النار عياناً ، قاله الزجاج ، أو يكذبهم جميعاً ويدخلهم النار ، أو يثيب من كان على حق ، ويعذب من كان على باطل .

وكلها أقوال متقاربة .

والظرفان والجار الأول معمولان ليحكم ، وفيه متعلق بيختلفون .

/خ113