ثم ساق - سبحانه - تسلية أخرى للرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً . . . } أى : رسلا كثيرين { مِّن قَبْلِكَ } أى من قبل إرسالك إلى الناس .
{ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ } كنوح وهود وصالح وإبراهيم . وغيرهم .
{ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } أخبارهم وأحوالهم لأن حكمتنا قد اقتضت ذلك .
كما قال - تعالى - فى آية أخرى : { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } والمراد بالآية فى قوله - تعالى - { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } المعجة الخارقة الدالة على صدقه فيما يبلغه عن ربه .
أى : وما صح وما استقام لرسول من الرسل أن يأتى بمعجزة من عند نفسه ، وإنما يأتى بها بإذن الله - تعالى - ومشيئته ، إذ المعجزات جميعا عطايا من الله - تعالى - لرسله لتأييدهم فى دعوتهم .
{ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله } أى : فإذا جاء الوقت الذى حدده - سبحانه - لعذاب أعدائه { قُضِيَ بالحق } أى : قضى بين الناس جميعا بالحق ، فينجى - سبحانه - بقضائه العادل عباده المؤمنين .
{ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون } أى : وخسر - عند مجئ أمر الله ، عند القضاء بين خلقه - المبطلون ، وهم الذين ماتوا مصرين على كفرهم أو فسوقهم عن أمره .
وكما قال - تعالى - فى آيات أخرى منها قوله - تعالى - : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون }
( ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك ، منهم من قصصنا عليك ، ومنهم من لم نقصص عليك ؛ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ، فإذا جاء أمر الله قضي بالحق ، وخسر هنالك المبطلون ) . .
إن لهذا الأمر سوابق كثيرة ، قص الله على رسوله بعضها في هذا الكتاب ، وبعضها لم يقصصه . وفيما قصه من أمر الرسل ما يشير إلى الطريق الطويل الواصل الواضح المعالم ؛ وما يقرر السنة الماضية الجارية التي لا تتخلف ؛ وما يوضح حقيقة الرسالة ووظيفة الرسل وحدودها أدق إيضاح .
وتؤكد الآية حقيقة تحتاج إلى توكيدها في النفس ، وتتكىء عليها لتقررها تقريراً شديداً :
( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ) . .
فالنفس البشرية - ولو كانت نفس رسول - تتمنى وترغب أن تستعلي الدعوة وأن يذعن لها المكابرون سريعاً . فتتطلع إلى ظهور الآية الخارقة التي تقهر كل مكابرة . ولكن الله يريد أن يلوذ عباده المختارون بالصبر المطلق ؛ ويروضوا أنفسهم عليه ؛ فيبين لهم أن ليس لهم من الأمر شيء ، وأن وظيفتهم تنتهي عند حد البلاغ ، وأن مجيء الآية هو الذي يتولاه حينما يريد . لتطمئن قلوبهم وتهدأ وتستقر ؛ ويرضوا بكل ما يتم على أيديهم ويدعوا الأمر كله بعد ذلك لله .
ويريد كذلك أن يدرك الناس طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة ، ويعرفوا أن الرسل بشر منهم ، اختارهم الله ، وحدد لهم وظيفتهم ، وما هم بقادرين ولا محاولين أن يتجاوزوا حدود هذه الوظيفة . .
كذلك ليعلم الناس أن تأخير الآيات رحمة بهم ؛ فقد قضى في تقديره بأن يدمر على المكذبين بعد ظهور الآيات . وإذن فهي مهلة ، وهي من الله رحمة :
( فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون ) . .
ولم يعد هناك مجال لعمل ولا لتوبة ولا لرجعة بعد قضاء الله الأخير .
ثم قال مسليا له : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } كما قال في " سورة النساء " سواء ، أي : منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع قومهم كيف كذبوهم ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة ، { وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } وهم أكثر ممن ذكر
بأضعاف أضعاف ، كما تقدم التنبيه على ذلك في سورة النساء{[25597]} ، ولله الحمد والمنة .
وقوله : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات ، إلا أن يأذن الله {[25598]} له في ذلك ، فيدل ذلك على صدقه فيما جاءهم به ، { فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين { قُضِيَ بِالْحَقِّ } فينجو المؤمنون ، ويهلك الكافرون ؛ ولهذا قال : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّن لّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالْحَقّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَلَقَدْ أرْسَلْنا يامحمد رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ إلى أممها مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ يقول : من أولئك الذين أرسلنا إلى أممهم من قصصنا عليك نبأهم وَمِنْهُمْ مِنْ لَمْ نَقْصُصّ عَلَيْكَ نبأهم . وذُكر عن أنس أنهم ثمانية آلاف . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا عليّ بن شعيب السمسار ، قال : حدثنا معن بن عيسى ، قال : حدثنا إبراهيم بن المهاجر بن مسمار ، عن محمد بن المنكدر ، عن يزيد بن أبان ، عن أنس بن مالك ، قال : بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ثمانية آلاف من الأنبياء ، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل .
حدثنا أبو كُرَيْب قال : حدثنا يونس ، عن عتبة بن عتيبة البصريّ العبديّ ، عن أبي سهل عن وهب بن عبد الله بن كعب بن سور الأزدي ، عن سلمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «بعث الله أربعة آلاف نبي » .
حدثني أحمد بن الحسين الترمذي ، قال : حدثنا آدم بن أبي إياس ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن ابن عبد الله بن يحيى ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، في قوله : مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مِنْ لَمْ نَقْصُصّ عَلَيْكَ قال : بعث الله عبدا حبشيا نبيا ، فهو الذي لم نقصص عليك .
وقوله : وَما كانَ لِرَسُولِ أنْ يَأْتِيَ بآيَةٍ إلاّ بإذْنِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : وما جعلنا لرسول ممن أرسلناه من قبلك الذين قصصناهم عليك ، والذين لم نقصصهم عليك إلى أممها أن يأتي قومه بآية فاصلة بينه وبينهم ، إلا بإذن الله له بذلك ، فيأتيهم بها يقول جلّ ثناؤه لنبيه : فلذلك لم يجعل لك أن تأتي قومك بما يسألونك من الاَيات دون إذننا لك بذلك ، كما لم نجعل لمن قبلك من رسلنا إلا أن نأذن له به فإذَا جاءَ أمْرُ اللّهِ قُضِيَ بالحَقّ يعني بالعدل ، وهو أن ينجي رسله والذين آمنوا معهم وخَسِرَ هُنالِكَ المُبْطِلُونَ يقول : وهلك هنالك الذين أبطلوا في قيلهم الكذب ، وافترائهم على الله وادعائهم له شريكا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد أرسلنا رسلا من قبلك} يا محمد {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} ذكرهم.
{وما كان لرسول أن يأتي بآية} وذلك أن كفار مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية يقول الله تعالى: {وما كان لرسول} يعني وما ينبغي لرسول.
{أن يأتي بآية} إلى قومه {إلا بإذن الله} يعني إلا بأمر الله.
{قضي} العذاب {بالحق} يعني لم يظلموا حين عفوا.
{وخسر هنالك} يعني عند ذلك {المبطلون} المكذبين بالعذاب في الدنيا بأنه غير كائن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وَلَقَدْ أرْسَلْنا" يامحمد "رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ "إلى أممها؛ "مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ" يقول: من أولئك الذين أرسلنا إلى أممهم من قصصنا عليك نبأهم، "وَمِنْهُمْ مِنْ لَمْ نَقْصُصّ عَلَيْكَ" نبأهم...
وقوله: "وَما كانَ لِرَسُولِ أنْ يَأْتِيَ بآيَةٍ إلاّ بإذْنِ اللّهِ" يقول تعالى ذكره: وما جعلنا لرسول ممن أرسلناه من قبلك الذين قصصناهم عليك، والذين لم نقصصهم عليك إلى أممها أن يأتي قومه بآية فاصلة بينه وبينهم، إلا بإذن الله له بذلك، فيأتيهم بها، يقول جلّ ثناؤه لنبيه: فلذلك لم يجعل لك أن تأتي قومك بما يسألونك من الآيات دون إذننا لك بذلك، كما لم نجعل لمن قبلك من رسلنا إلا أن نأذن له به.
"فإذَا جاءَ أمْرُ اللّهِ قُضِيَ بالحَقّ" يعني بالعدل، وهو أن ينجي رسله والذين آمنوا معهم، "وخَسِرَ هُنالِكَ المُبْطِلُونَ" يقول: وهلك هنالك الذين أبطلوا في قيلهم الكذب، وافترائهم على الله وادعائهم له شريكا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله} وعيد، ورد عقيب اقتراح الآيات.
{المبطلون} هم المعاندون الذين اقترحوا الآيات، وقد أتتهم الآيات فأنكروها وسموها سحراً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك} الآية رد على العرب الذين قالوا: إن الله لا يبعث بشراً رسولاً واستبعدوا ذلك.
{منهم من قصصنا} قال النقاش: هم أربعة وعشرون.
{وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} رد على قريش في إنكارهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقولهم إنه كاذب على الله تعالى. والإذن يتضمن علماً وتمكيناً. فإذا اقترن به أمر قوي كما هو في إرسال النبي، ثم قال تعالى: {فإذا جاء أمر الله} أي إذا أراد الله إرسال رسول وبعثة نبي قضى ذلك وأنفذه بالحق، وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته.
{ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} والمعنى أنه قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: أنت كالرسل من قبلك، وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين، وليس فيهم أحد أعطاه الله آيات ومعجزات إلا وقد جادله قومه فيها وكذبوه فيها وجرى عليهم من الهم ما يقارب ما جرى عليك فصبروا، وكانوا أبدا يقترحون على الأنبياء إظهار المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل العناد والتعنت. ثم إن الله تعالى لما علم أن الصلاح في إظهار ما أظهره، وإلا لم يظهره ولم يكن ذلك قادحا في نبوتهم، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحا، لا جرم ما أظهرناها، وهذا هو المراد من قوله {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قسم له الله سبحانه الحال إلى إصابتهم أو وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان قد بقي مما هو أقر لعينه وأشفى لصدره أن يريهم في حياته آية تلجئهم إلى الإيمان، وتحملهم على الموافقة والإذعان، فيزول النزاع بحسن الاتباع، كما وقع لقوم يونس عليه الصلاة والسلام، قال عاطفاً على ما تقديره في تعليل الأمر بالصبر، فلقد أرسلناك إليهم ولننفذن أمرنا فيهم، وأما أنت فما عليك إلا البلاغ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله).. فالنفس البشرية -ولو كانت نفس رسول- تتمنى وترغب أن تستعلي الدعوة وأن يذعن لها المكابرون سريعاً. فتتطلع إلى ظهور الآية الخارقة التي تقهر كل مكابرة. ولكن الله يريد أن يلوذ عباده المختارون بالصبر المطلق؛ ويروضوا أنفسهم عليه؛ فيبين لهم أن ليس لهم من الأمر شيء، وأن وظيفتهم تنتهي عند حد البلاغ، وأن مجيء الآية هو الذي يتولاه حينما يريد. لتطمئن قلوبهم وتهدأ وتستقر؛ ويرضوا بكل ما يتم على أيديهم ويدعوا الأمر كله بعد ذلك لله. ويريد كذلك أن يدرك الناس طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة ويعرفوا أن الرسل بشر منهم، اختارهم الله، وحدد لهم وظيفتهم، وما هم بقادرين ولا محاولين أن يتجاوزوا حدود هذه الوظيفة.. كذلك ليعلم الناس أن تأخير الآيات رحمة بهم؛ فقد قضى في تقديره بأن يدمر على المكذبين بعد ظهور الآيات. وإذن فهي مهلة، وهي من الله رحمة: (فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون).. ولم يعد هناك مجال لعمل ولا لتوبة ولا لرجعة بعد قضاء الله الأخير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المقصود الأهمّ من هذه الآية هو قوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أنْ يأتِيَ بِآيَةٍ إلاَّ بإذْنِ الله}.
وأما قوله: {وَلَقَدْ أرْسَلْنَا رُسُلاً مِن قَبْلِكَ} الخ فهو كمقدمة للمقصود لتأكيد العموم من قوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}، وهو مع ذلك يفيد بتقديمه معنى مستقلاً من رد مجادلتهم فإنهم كانوا يقولون: {ما أنزل اللَّه على بشر من شيء} [الأنعام: 91] ويقولون: {لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 8] فدُمغت مزاعمهم بما هو معلوم بالتواتر من تكرر بعثة الرسل في العصور والأمم الكثيرة.
وتنكير {رسلاً} مفيد للتعظيم والتكثير، أي أرسلنا رسلاً عددهم كثير وشأنهم عظيم. وعطف
{ومَا كَانَ لِرَسُولٍ} الخ بالواو دون الفاء يفيد استقلال هذه الجملة بنفسها لما فيها من معنى عظيم حقيق بأن لا يكون تابعاً لغيره، ويكتفي في الدلالة على ارتباط الجملتين بموقع إحداهما من الأخرى
والآية: المعجزة، وإذن الله: هو أمر التكوين الذي يخلق الله به خارق العادة ليجعله علامة على صدق الرسول. ومعنى إتيان الرسول بآية: هو تحديه قومه بأن الله سيؤيده بآية يعينّها مثل قول صالح عليه السلام: {هذه ناقة الله لكم آية} [الأعراف: 73]...فالباء في {بآية باء التعدية لفعل أَنْ يَأْتِيَ} وأما الباء في {بإذن الله} فهي باء السببية دخلت على مستثنىً من أسباب محذوفة في الاستثناء المفرغ، أي ما كان له أن يأتي بآية بسبب من الأسباب إلا بسبب إذن الله تعالى.
وهذا إبطال لما يتوركون به من المقترحات والتعلات.
وفُرع عليه قوله: {فَإذَا جَاءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بِالحَقِّ} أي فإذا جاء أمر الله بإظهار الرسول آية ظهر صدق الرسول وكان ذلك قضاء من الله تعالى لرسوله بالحق على مكذبيه، فإذن الله هو أمره التكويني بخلق آية وظهورها.
{فَإِذَا جَاءَ أمْرُ الله} الأمر: القضاء والتقدير، كقوله تعالى: {أتى أمر اللَّه فلا تستعجلوه} [النحل: 1] وقوله: {أو أمر من عنده} [المائدة: 52] وهو الحدث القاهر للناس كما في قول عمر لما قال له أبو قَتادة يومَ حُنين « ما شأن الناس» حين انهزموا وفَرّوا قال عمر: « أَمرُ الله» وفي العدول عن: إذن الله، إلى {أَمْرُ الله} تعريض بأن ما سيظهره الله من الإِذن لمحمد صلى الله عليه وسلم هي آيات عقاب لمعانديه، فمنها: آية الجوع سبع سنين حتى أكلوا الميتة، وآيةُ السيفِ يوم بدر إذْ استأصل صناديدَ المكذبين من أهل مكة، وآية السيفِ يوم حُنين إذ استأصل صناديدَ أهل الطائف، وآية الأحزاب التي قال الله عنها: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها} [الأحزاب: 9] ثم قال: {وردَّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى اللَّه المؤمنين القتال وكان اللَّه قوياً عزيزاً وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديراً} [الأحزاب: 25 27].
وفي إيثار {قُضِيَ بِالحَق} بالذكر دون غيره من نحو: ظهر الحق، أو تبين الصدق، ترشيح لما في قوله: {أَمْرُ الله} من التعريض بأنه أمر انتصاف من المكذبين. ولذلك عطف عليه {وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ} أي خسر الذين جَادلوا بالباطل ليُدحضوا به الحق.
والخسران: مستعار لحصول الضرّ لمن أراد النفع، كخسارة التاجر الذي أرادَ الربح فذهب رأس ماله.
و {هنالك} أصله اسم إشارة إلى المكان، واستعير هنا للإِشارة إلى الزمان المعبر عنه ب (إذا) في قوله: {فَإِذَا جَاءَ أمْرُ الله}.
وفي هذه الاستعارة نكتة بديعية وهي الإِيماء إلى أن المبطلين من قريش ستأتيهم الآية في مكان من الأرض وهو مكان بَدر وغيره من مواقع إعمال السيف فيهم، فكانت آيات محمد صلى الله عليه وسلم حجة على معانديه أقوى من الآيات السماوية نحو الصواعق أو الريح، وعن الآياتِ الأرضية نحو الغَرق والخسف؛ لأنها كانت مع مشاركتهم ومداخلتهم حتى يكون انغلابهم أقطع لحجتهم وأخزى لهم نظير آية عَصَا موسى مع عِصيّ السحرة.