قوله تعالى :{ فخسفنا به وبداره الأرض } قال أهل العلم بالأخبار : كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى ، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطاً أربعة في كل طرف خيطاً أزرق كلون السماء ، يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء ، ويعلمون أني منزل منها كلامي ، فقال موسى : يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضراً فإن بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط ، فقال له ربه : يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير ، فدعاهم موسى عليه السلام ، وقال : إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطاً خضراً كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ، ففعلت بني إسرائيل ما أمرهم به موسى ، واستكبر قارون فلم يطعه ، وقال : إنما يفعل هذا الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم ، فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون ، وهي رياسة المذبح ، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله ، فوجد قارون من ذلك في نفسه وأتى موسى فقال : يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ، ولست في شيء من ذلك ، وأنا أقرأ التوراة ، لا صبر لي على هذا . فقال له موسى : ما أنا جعلتها في هارون بل الله جعلها له . فقال قارون : والله لا أصدقك حتى تريني بيانه ، فجمع موسى رؤوس بني إسرائيل فقال : هاتوا عصيكم ، فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله فيها ، فجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا ، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى : يا قارون ترى هذا ؟ فقال قارون : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، واعتزل قارون موسى بأتباعه ، وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد إلا عتواً وتجبراً ومعاداةً لموسى ، حتى بنى داراً وجعل بابها من الذهب ، وضرب على جدرانها صفائح الذهب ، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه . قال ابن عباس رضي الله عنهما : فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، وعن كل ألف شيء على شيء ، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيراً فلم تسمح بذلك نفسه ، فجمع بني إسرائيل فقال لهم : يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه ، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت فقال آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي ، فنجعل لها جعلاً حتى تقذف موسى بنفسها ، فإذا فعلت ذلك خرج بنو إسرائيل عليه ورفضوه ، فدعاها فجعل لها قارون ألف درهم ، وقيل ألف دينار ، وقيل طستاً من ذهب ، وقال لها إني أمولك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى ينفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل ، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال : إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم ، فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض ، فقام فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ، ومن افترى جلدناه ثمانين ، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة ، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت ، فقال له قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال : ادعوها فإن قالت فهو كما قالت ، فلما جاءت قال لها موسى : يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ؟ وعظم عليها القسم ، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت ، فتداركها الله تعالى بالتوفيق فقالت في نفسها : أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : لا ، كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلاً أن أقذفك بنفسي ، فخر موسى ساجداً يبكي ويقول : اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله تعالى إليه : إني أمرت الأرض أن تطيعك ، فمرها بما شئت ، فقال موسى : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ، ثم قال موسى : يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم . وفي رواية : كان على سريره وفرشه فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ، ويناشده قارون الله والرحم ، حتى روي أنه ناشده سبعين مرة وموسى عليه السلام في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ، ثم قال : يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض ، وأوحى الله إلى موسى ما أغلط قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم تغثه ، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأعثته . وفي بعض الآثار : لا أجعل الأرض بعدك طوعاً لأحد . قال قتادة : خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة . قال : وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أن موسى إنما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض ، فذلك قوله عز وجل : { فخسفنا به وبداره الأرض } { فما كان له من فئة } من جماعة ، { ينصرونه من دون الله } يمنعونه من الله ، { وما كانوا من المنتصرين } من الممتنعين مما نزل به من الخسف .
ثم جاءت بعد ذلك العقوبة لقارون ، بعد أن تجاوز الحدود فى البغى والفخر والإفساد فى الأرض . وقد حكى سبحانه - هذه العقوبة فى قوله : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } .
وقوله - تعالى - { فَخَسَفْنَا } من الخسف وهو النزول فى الأرض ، يقال : خسف المكان خسفا - من باب ضرب - إذا غار فى الأرض . ويقال : خسف القمر ، إذا ذهب ضؤوه ، وخسف الله بفلان الأرض ، إذا غيبه فيها .
قال ابن كثير لما ذكر الله - تعالى - اختيال قارون فى زينته ، وفخره على قومه وبغيه عليهم ، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض ، كما ثبت فى الصحيح - عند البخارى من حديث الزهرى عن سالم - أن أباه حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به ، فهو يتجلجل فى الأرض إلى يوم القيامة " .
أى : تمادى قارون فى بغيه ، ولم يستمع لنصح الناصحين ، فغيبناه فى الأرض هو وداره ، وأذهبناهما فيها ذهابا تاما .
{ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله } أى : فما كان لقارون من جماعة أو عصبة تنصره من عذاب الله ، بأن تدفعه عنه ، أو ترحمه منه .
{ وَمَا كَانَ } قارون { مِنَ المنتصرين } بل كان من الأذلين الذين تلقوا عقوبة الله - تعالى - باستسلام وخضوع وخنوع ، دون أن يستطيع هو أو قومه رد عقوبة الله - تعالى - .
وعندما تبلغ فتنة الزينة ذروتها ، وتتهافت أمامها النفوس وتتهاوى ، تتدخل يد القدرة لتضع حدا للفتنة ، وترحم الناس الضعاف من إغرائها ، وتحطم الغرور والكبرياء تحطما . ويجيء المشهد الثالث حاسما فاصلا :
( فخسفنا به وبداره الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وما كان من المنتصرين ) . .
هكذا في جملة قصيرة ، وفي لمحة خاطفة : ( فخسفنا به وبداره الأرض )فابتلعته وابتعلت داره ، وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا . وذهب ضعيفا عاجزا ، لا ينصره أحد ، ولا ينتصر بجاه أو مال .
وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس ؛ وردتهم الضربة القاضية إلى الله ؛ وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال . وكان هذا المشهد الأخير :
لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته ، وفخره على قومه وبغيه عليهم ، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض ، كما ثبت في الصحيح - عند البخاري من حديث الزهري ، عن سالم - أن أباه حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به{[22418]} ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة " .
ثم رواه من حديث جرير بن زيد ، عن سالم عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه{[22419]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص ، حدثنا الأعمش ، عن عطية{[22420]} ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله{[22421]} صلى الله عليه وسلم : " بينا رجل فيمَنْ كان قبلكم ، خرج في بُرْدَيْن أخضرين يختال فيهما ، أمر الله الأرض فأخذته ، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة " . تفرد به أحمد{[22422]} ، وإسناده حسن .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو خَيْثَمَةَ ، حدثنا أبو معلى بن منصور{[22423]} ، أخبرني محمد بن مسلم ، سمعت زيادًا النميري يحدث عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينا رجل فيمن{[22424]} كان قبلكم خرج في بردين فاختال فيهما ، فأمر الله الأرض فأخذته ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " {[22425]} .
وقد ذكر [ الحافظ ]{[22426]} محمد بن المنذر - شكَّر - في كتاب العجائب الغريبة بسنده عن نوفل بن مساحق قال : رأيت شابًّا في مسجد نجران ، فجعلت أنظر إليه وأتعجب من طوله وتمامه وجماله ، فقال : ما لك تنظر إلي ؟ فقلت : أعجب من جمالك وكمالك . فقال : إن الله ليعجب مني . قال : فما زال ينقص وينقص حتى صار بطول الشبر ، فأخذه بعض قرابته في كمه وذهب .
وقد ذُكر أن هلاك قارون كان عن دعوة نبي الله موسى عليه السلام{[22427]} واختلف في سببه ، فعن ابن عباس والسدي : أن قارون أعطى امرأة بَغِيَّا مالا على أن تبهت موسى بحضرة الملأ من بني إسرائيل ، وهو قائم فيهم يتلو عليهم كتاب الله ، فتقول : يا موسى ، إنك فعلت بي كذا وكذا . فلما قالت في الملأ ذلك{[22428]} لموسى عليه السلام ، أرْعِدَ من الفَرَق ، وأقبل عليها{[22429]} وصلى ركعتين ثم قال : أنشدك بالله الذي فَرَق البحر ، وأنجاكم من فرعون ، وفعل كذا و[ فعل ]{[22430]} كذا ، لما أخبرتني بالذي حملك على ما قلت ؟ فقالت : أما إذ نَشَدْتَني فإن قارون أعطاني كذا وكذا ، على أن أقول لك ، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه . فعند ذلك خَرّ موسى لله عز وجل ساجدًا ، وسأل الله في قارون . فأوحى الله إليه أني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه ، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره فكان{[22431]} ذلك .
وقيل : إن قارون لما خرج على قومه في زينته تلك ، وهو راكب على البغال الشّهب ، وعليه وعلى خدمه الثياب الأرجوان الصّبغة{[22432]} ، فمر في جَحْفَله ذلك على مجلس نبي الله موسى عليه السلام ، وهو يذكرهم بأيام الله . فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوه الناس حوله ، ينظرون إلى ما هو فيه . فدعاه موسى عليه السلام ، وقال : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : يا موسى ، أما لئن كنت فُضِّلتَ عَلَيَّ بالنبوة ، فلقد فضلت عليك بالدنيا ، ولئن شئت لتخرجن ، فلتدعون عليّ وأدعو عليك . فخرج وخرج قارون في قومه ، فقال موسى{[22433]} : تدعو أو أدعو أنا ؟ قال : بل أنا أدعو . فدعا قارون فلم يجب له ، ثم قال موسى{[22434]} : أدعو ؟ قال : نعم . فقال موسى : اللهم ، مُر الأرض أن تطيعني{[22435]} اليوم . فأوحى الله إليه أني قد فعلت ، فقال موسى : يا أرض ، خذيهم . فأخذتهم إلى أقدامهم . ثم قال : خذيهم . فأخذتهم إلى ركبهم ، ثم إلى مناكبهم . ثم قال : أقبلي بكنوزهم وأموالهم . قال : فأقبلت بها حتى نظروا إليها . ثم أشار موسى بيده فقال : اذهبوا بني لاوى{[22436]} فاستوت بهم الأرض .
وعن ابن عباس أنه قال : خُسف بهم إلى الأرض السابعة .
وقال قتادة : ذكر لنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة ، فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة .
وقد ذكر ها هنا إسرائيليات [ غريبة ]{[22437]} أضربنا عنها صفحًا .
وقوله : { فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } أي : ما أغنى عنه مالُه ، وما جَمَعه ، ولا خدمه و [ لا ]{[22438]} حشمه . ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله [ به ]{[22439]} ، ولا كان هو في نفسه منتصرًا لنفسه ، فلا ناصر له[ لا ]{[22440]} من نفسه ، ولا من غيره .