قوله تعالى : { وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس } ، قرأ حمزة و الكسائي و حفص بالقسطاس بكسر القاف والباقون بضمه ، وهما لغتان وهو الميزان صغر أو كبر أي : بميزان العدل . وقال الحسن : هو القبان . قال مجاهد : هو رومي . وقال غيره : هو عربي مأخوذ من القسط وهو العدل ، أي : زنوا بالعدل . { المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلاً } أي : عاقبةً .
وبعد أن أمر - سبحانه - بالوفاء بصفة عامة ، أتبع ذلك بالوفاء فى شئون البيع والشراء ، فقال - تعالى - : { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } .
والقسطاس : الميزان الذى يوزن به فى حالتى البيع والشراء .
قال صاحب الكشاف : قرئ { بالقسطاس } بكسر القاف وضمها . . قيل : كل ميزان صغر أو كبر من موازين الدراهم وغيرها .
وقال الآلوسى ما ملخصه : وهذا اللفظ رومى معرب . . وقيل : عربى . . وعلى القول بأنه رومى معرب - وهو الصحيح - لا يقدح استعماله فى القرآن فى عربيته المذكورة فى قوله - تعالى - : { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } لأنه بعد التعريب والسماع فى فصيح الكلام ، يصير عربيا ، فلا حاجة إلى إنكار تعريبه . . .
وقوله : { تأويلا } من الأول - بفتح الهمزة وسكون الواو - بمعنى الرجوع . يقال : آل هذا الأمر إلى كذا ، إذا رجع إليه .
والمعنى : وأتموا أيها المؤمنون الكيل إذا كلتم لغيرم عند بيعكم لهم ما تريدون بيعه ، وزنوا لهم كذلك بالميزان المستقيم العادل ما تريدون وزنه لهم .
وقيد - سبحانه - الأمر بوجوب إتمام الكيل والميزان فى حالة البيع ، لأنها الحالة التى يكون فيها التطفيف فى العادة ، إذ أن البائع هو الذى غالبا ما يطفف للمشترى فى المكيال والميزان ولا يعطيه حقه كاملا .
قال - تعالى - : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } أى : ذلك الذى أمرناكم به . من وجوب إتمام المكيال والميزان عند التعامل ، خير لكم فى الدنيا ، لأنه يرغب الناس فى التعامل معكم ، أما فى الآخرة فهو أحسن عاقبة ومآلا ، لما يترتب عليه من الثواب الجزيل لكم من الله - عز وجل - .
ومن الوفاء بالعهد إلى إيفاء الكيل والميزان :
( وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم . ذلك خير وأحسن تأويلا ) . .
والمناسبة بين الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والميزان ظاهرة في المعنى واللفظ ، فالانتقال في السياق ملحوظ التناسق .
وإيفاء الكيل والاستقامة في الوزن ، أمانة في التعامل ، ونظافة في القلب ، يستقيم بهما التعامل في الجماعة ، وتتوافر بهما الثقة في النفوس ، وتتم بهما البركة في الحياة . ( ذلك خير و أحسن تأويلا ) . . خير في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة .
والرسول [ ص ] يقول : " لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ، ليس به إلا مخافة الله ، إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك " .
والطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس ، وغش وخيانة في التعامل تتزعزع بهما الثقة ، ويتبعها الكساد ، وتقل بهما البركة في محيط الجماعة ، فيرتد هذا على الأفراد ؛ وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف .
وهو كسب ظاهري ووقتي ، لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين .
وهذه حقيقة أدركها بعيدو النظر في عالم التجارة فاتبعوها ، ولم يكن الدافع الأخلاقي ، أو الحافز الديني هو الباعث عليها ؛ بل مجرد إدراكها في واقع السوق بالتجربة العملية .
والفارق بين من يلتزم إيفاء الكيل والميزان تجارة ، ومن يلتزمه اعتقادا . . أن هذا يحقق أهداف ذاك ؛ ويزيد عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العملي إلى آفاق أعلى من الأرض ، وأوسع في تصور الحياة وتذوقها .
وهكذا يحقق الإسلام دائما أهداف الحياة العملية وهو ماض في طريقه إلى آفاقه الوضيئة وآماده البعيدة ، ومجالاته الرحيبة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس}، يعني: بالميزان بلغة الروم،
{المستقيم ذلك} الوفاء، {خير} من النقصان،
{وأحسن تأويلا}، يعني: وخير عاقبة في الآخرة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَ" قضى أن "أوْفُوا الكَيْلَ "للناس "إِذَا كِلْتُمْ" لهم حقوقهم قِبَلَكم، ولا تبخَسُوهم "وَزِنُوا بالقِسْطاس المُسْتَقِيمِ" يقول: وقَضَى أن زنوا أيضا إذا وزنتم لهم بالميزان المستقيم، وهو العدل الذي لا اعوجاج فيه، ولا دَغَل، ولا خديعة.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى القسطاس؛ فقال بعضهم: هو القبان
وقال آخرون: هو الميزان صغر أو كبر...
وقوله "ذلكَ خَيْرٌ" يقول: إيفاؤكم أيها الناس من تكيلون له الكيل، ووزنكم بالعدل لمن توفون له خَيْرٌ لَكُمْ من بخسكم إياهم ذلك، وظلمكموهم فيه.
وقوله "وأحْسَنُ تَأْوِيلا" يقول: وأحسن مردودا عليكم وأولى إليه فيه فعلكم ذلك، لأن الله تبارك وتعالى يرضى بذلك عليكم، فيُحسن لكم عليه الجزاء... عن قتادة (وأحْسَنُ تَأْوِيلا) قال: عاقبة وثوابا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر تخصيص الكيلي والوزني من بين سائر الأشياء، يحتمل وجهين:
أحدهما: لما بهما تجرى عامة معاملة الناس، فأمرهم بإيفاء ذلك.
والثاني: لخوف الربا الكيلي والوزني، هما اللذان يكونان دينا في الذمة، فإذا أخذ شيء منهما أخذ عما كان دينا في الذمة؛ فإن نقص، أو زاد، فيكون ربا. لذلك خص، وإن كان غيره من الأشياء يؤمر بالإيفاء...
{ذلك خير وأحسن تأويلا} يحتمل قوله: {ذلك خير} ما ذكر من توفير الكيل وإيفاء الحقوق خير في الدنيا لما فيه أمن لهم من الناس {وأحسن تأويلا} عاقبة في الآخرة. ويحتمل قوله {ذلك خير} ما ذكر في هذه من أولها إلى آخرها إذا ما عملوا بها خير لهم في الدنيا {وأحسن تأويلا} أي عاقبة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {وأوفوا الكيل} الآية، أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجر والكيل والوزن أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم... وتقتضي هذه الآية أن الكيل على البائع، لأن المشتري لا يقال له أوف الكيل... واللفظة منه [أي القسطاس] للمبالغة من القسط، والمراد بها في الآية جنس الموازين المعدّلة على أي صفة كانت... ويحتمل أن يكون «التأويل» مصدر تأول أي يتأول عليكم الخير في جميع أموركم إذا أحسنتم في الكيل والوزن... والفرض من أمر الكيل والوزن تحري الحق، فإن غلب الإنسان تعد تحريه شيء يسير من تطفيف شاذاً لم يقصده بذلك نزر موضوع عنه إثمه، وذلك ما لا يكون الانفكاك عنه في وسع...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إذَا كِلْتُمْ} يُرِيدُ أَعْطُوهُ بِالْوَفَاءِ، وَهُوَ التَّمَامُ، لَا بَخْسَ فِيهِ، بِالْقِسْطِ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ...
{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} يَعْنِي الْمِيزَانَ الْعَدْلَ...
{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}... مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَدْلَ وَالْوَفَاءَ فِي الْكَيْلِ أَفْضَلُ لِلتَّاجِرِ وَأَكْرَمُ لِلْبَائِعِ من طَلَبِ الْحِيلَةِ فِي الزِّيَادَةِ لِنَفْسِهِ، وَالنُّقْصَانِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةٍ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال: {إذا كلتم} أي لغيركم، فإن اكتلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم توفوا الكيل... {وزنوا} أي وزناً متلبساً {بالقسطاس} أي ميزان العدل الذي هو أقوم الموازين، وزاد في تأكيد معناه فقال تعالى: {المستقيم} دون شيء من الحيف على ما مضى في الكيل سواء... {ذلك} أي الأمر العالي الرتبة الذي أمرناكم به... {خير} لكم في الدنيا والآخرة وإن تراءى لكم أن غيره خير... {وأحسن تأويلاً} أي عاقبة في الدارين، وهو تفعيل من الأول وهو الرجوع، وأفعل التفضيل هنا لاستعمال النصفة لإرخاء العنان، أي على تقدير أن يكون في كل منهما خير...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{إِذا كِلْتُمْ} أي وقت كيلِكم للمشترين وتقييدُ الأمر بذلك لما أن التطفيفَ هناك يكون وأما وقت الاكتيالِ على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى: {إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ}... {المستقيم} أي العدْلِ السويّ ولعل الاكتفاءَ باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن لما أن عند استقامتِه لا يتصور الجَوْرُ غالباً بخلاف الكيل فإنه كثيراً ما يقع التطفيفُ مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاءَ بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءَه لا يُتصوَّر بدون تعديل المكيالِ وقد أُمر بتقويمه أيضاً في قوله تعالى: {أَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط}... {ذلك} أي إيفاءُ الكيلِ والوزن بالميزان السوي...
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
(القسطاس): هو الآلة التي يحصل بها الإيفاء من المكيال و الميزان على تعدد أنواعهما... (والمستقيم): الصحيح الذي لا عيب فيه مما يجعله غير صالح للوفاء بالعدل، ككسره أو اعوجاجه أو أي خلل في تركيبه... (والخير): النافع... و بين أن الوفاء يكون عند الكيل بقوله:"إذا كلتم"، على سبيل التأكيد حتى لا يتأخر الوفاء عن الكير، بأن يكمل ما نقص، أو يرد ما زاد، فإن الذي يفصل الحق، ويطيب النفوس هو الوفاء وقت الكيل... رغب الله تعالى في الإيفاء بوجهين: الأول: أنه (خير) فيفيد العدل والحق، و أكل الحلال، و راحة البال. و فيه حصول الثقة التي هي رأس مال التاجر. و فيه حفظ نظام التعامل الذي هو ضروري للحياة. وهذه كلها وجوه نفع وخير. الثاني: أنه (أحسن) عاقبة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ويؤخذ من عموم المعنى النهي عن كل غش في ثمن أو مثمن أو معقود عليه والأمر بالنصح والصدق في المعاملة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس، وغش وخيانة في التعامل تتزعزع بهما الثقة، ويتبعها الكساد، وتقل بهما البركة في محيط الجماعة، فيرتد هذا على الأفراد؛ وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف. وهو كسب ظاهري ووقتي، لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
(إذا) الظرفية الشرطية للتنبيه على عدم التسامح في شيء من نقص الكيل عند كل مباشرة له... وفعل (كال) يدل على أن فاعله مباشرُ الكيل، فهو الذي يدفع الشيء المكيل، وهو بمنزلة البائع، ويقال للذي يقبض الشيء المكيل: مكتال... وهو [أي القسطاس] اسم للميزان أي آلة الوزن، واسم للعدل... ومعنى العدل والميزان صالحان هنا، لكن التي في الأنعام جاء فيها {بالقِسط} فهو العدل لأنها سيقت مساق التذكير للمشركين بما هم عليه من المفاسد فناسب أن يذكروا بالعدل ليعلموا أن ما يفعلونه ظلم. والباء هنالك للملابسة. وهذه الآية جاءت خطاباً للمسلمين فكانت أجدر باللفظ الصالح لمعنى آلة الوزن، لأن شأن التشريع بيان تحديد العمل مع كونه يومىء إلى معنى العدل على استعمال المشترك في معنييه. فالباء هنا ظاهرة في معنى الاستعانة والآلة، ومفيدة للملابسة أيضاً... وجملة {ذلك خير} مستأنفة. والإشارة إلى المذكور وهو الكيل والوزن المستفاد من فعلي {كلتم} و {زنوا}...
و {خير} تفضيل، أي خير من التطفيف، أي خير لكم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن ذكر الكيل والميزان لأنهما حسيان، ولكنهما رمز لكل المعاملات التي تكون بين الجماعة، فالمعاملة العادلة تربط الناس برباط من القوة لا تنفصم، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"عامل الناس بما تحب أن يعاملوك"...
والحديث هنا لا يخص الكيل فقط، بل جميع المقادير المستخدمة في حركة الحياة مثل المقادير الطولية مثلاً، والتي تقدر بالملليمتر أو السنتيمتر أو المتر أو الكيلو متر وتقاس بها الأشياء كل على حسبه، فالكتاب مثلاً يقاس بالسنتيمتر، والحجرة تقاس بالمتر، أما الطريق فيقاس بالكيلومتر وهكذا... {وأوفوا الكيل إذا كلتم}: يعني: أعطوا المقادير على قدر المطلوب من الطرفين دون نقص... {وزنوا بالقسطاس المستقيم}: والمتأمل يجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما أراد دقة الأحجام في تعاملات الناس أمرهم بإيفاء الكيل حقه، هكذا: {وأوفوا الكيل}: أما في الوزن فقد ركز على دقته، وجعله بالقسطاس، ليس القسطاس فحسب بل المستقيم... لذلك من معاني (القسطاس المستقيم) أن يتناسب الميزان مع قيمة الموزون...