مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلٗا} (35)

قوله تعالى { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا } .

اعلم أنه تعالى أمر بخمسة أشياء أولا ، ثم أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي النهي عن الزنا ، وعن القتل إلا بالحق ، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، ثم أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة فالأول قوله : { وأوفوا بالعهد } .

واعلم أن كل عقد تقدم لأجل توثيق الأمر وتوكيده فهو عهد فقوله : { وأوفوا بالعهد } نظير لقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } فدخل في قوله : { أوفوا بالعقود } كل عقد من العقود كعقد البيع والشركة ، وعقد اليمين والنذر ، وعقد الصلح ، وعقد النكاح . وحاصل القول فيه : أن مقتضى هذه الآية أن كل عقد وعهد جرى بين إنسانين فإنه يجب عليهما الوفاء بمقتضى ذلك العقد والعهد ، إلا إذا دل دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به فمقتضاه الحكم بصحة كل بيع وقع التراضي به وبصحة كل شركة وقع التراضي بها ، ويؤكد هذا النص بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود كقوله : { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } وقوله : { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } وقوله : { وأحل الله البيع } وقوله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقوله : { وأشهدوا إذا تبايعتم } وقوله عليه السلام : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة من نفسه » وقوله : « إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد » وقوله : « من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه » فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أن الأصل في البيوعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام .

إذا ثبت هذا فنقول : إن وجدنا نصا أخص من هذه النصوص يدل على البطلان والفساد قضينا به تقديما للخاص على العام ، وإلا قضينا بالصحة في الكل ، وأما تخصيص النص بالقياس فقد أبطلناه ، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملات على طولها وأطنابها مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة ، ويكون المكلف آمن القلب مطمئن النفس في العمل ، لأنه لما دلت هذه النصوص على صحتها فليس بعد بيان الله بيان ، وتصير الشريعة مضبوطة معلومة .

ثم قال تعالى : { إن العهد كان مسؤولا } وفيه وجوه : أحدها : أن يراد صاحب العهد كان مسؤلا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله : { واسأل القرية } وثانيها : أن العهد كان مسؤلا أي مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به . وثالثها : أن يكون هذا تخييلا كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفي بك تبكيتا للناكث كما يقال للموؤدة : { بأي ذنب قتلت } وكقوله : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين } الآية فالمخاطبة لعيسى عليه السلام والإنكار على غيره .

النوع الثاني : من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله : { وأوفوا الكيل إذا كلتم } والمقصود منه إتمام الكيل وذكر الوعيد الشديد في نقصانه في قوله : { ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } .

النوع الثالث : من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله : { وزنوا بالقسطاس المستقيم } فالآية المتقدمة في إتمام الكيل ، وهذه الآية في إتمام الوزن ، ونظيره قوله تعالى : { وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان } وقوله : { ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين } .

واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل ، والوزن قليل . والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم ، فوجب على العاقل الاحتراز منه ، وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المفاوضات والبيع والشراء ، وقد يكون الإنسان غافلا لا يهتدي إلى حفظ ماله ، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان ، سعيا في إبقاء الأموال على الملاك ، ومنعا من تلطيخ النفس بسرقة ذلك المقدار الحقير ، والقسطاس في معنى الميزان إلا أنه في العرف أكبر منه ، ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنه القبان . وقيل أنه بلسان الروم أو السرياني . والأصح أنه لغة العرب وهو مأخوذ من القسط ، وهو الذي يحصل فيه الاستقامة والاعتدال ، وبالجملة فمعناه المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الجانبين ، وأجمعوا على جواز اللغتين فيه ، ضم القاف وكسرها ، فالكسر قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والباقون بالضم .

ثم قال تعالى : { ذلك خير } أي الإيفاء بالتمام والكمال خير من التطفيف القليل من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة : { وأحسن تأويلا } والتأويل ما يؤل إليه الأمر كما قال في موضع آخر : { خير مردا } . { خير عقبى } . { خير أملا } وإنما حكم تعالى بأن عاقبة هذا الأمر أحسن العواقب ، لأنه في الدنيا إذا اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل ، وكم قد رأينا من الفقراء لما اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة أقبلت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة لهم في المدة القليلة . وأما في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم .