اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلٗا} (35)

قوله تعالى : { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ } الآية ، لما أمر تعالى بإتمام الكيل ، ذكر الوعيد الشديد في نقصانه كما في قوله تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 1-3 ] .

ثم قال تعالى : { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } .

وهذا هو النوع الثالث من الأوامر المذكورة ها هنا ، فالآية المتقدمة في إتمام الكيل ، وهذه في إتمام الوزن ، ونظيره قوله عزَّ وجلَّ : { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } [ الرحمن : 9 ] { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ } [ هود : 85 ] .

قرأ الأخوان{[20409]} وحفص بكسر القاف ها هنا وفي سورة الشعراء ، والباقون بضمها فيهما ، وهما لغتان مشهورتان ، فقيل : القسطاس في معنى الميزان ، إلاَّ أنَّه في العرف أكبر منه ، ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنَّه القبَّان ، وقيل : إنه بلسانِ الرُّوم أو السرياني ، والأصح أنه لغة العرب ، وقيل أيضاً القرسطون . وقيل : هو كل ميزان ، صغر أم كبر ، أي : بميزان العدل .

قال ابن عطيَّة - رحمه الله- : هو عربيٌّ مأخوذٌ من القسطِ ، وهو العدل ، أي : زنوا بالعدل المستقيم ، واللفظة للمبالغة من القسط ، وردَّه أبو حيَّان باختلاف المادَّتين ، ثم قال : " إلاَّ أن يدَّعي زيادةَ السِّين آخراً كقدموس ، وليس من مواضع زيادتها " ويقال بالسِّين والصَّاد .

فصل

اعلم أنَّ التفاوت الحاصل بنقصان الكيل والوزن قليل ، والوعيد عليه شديد عظيم ، فيجب على العاقل الاحتراز منه ، وإنَّما عظم الوعيد فيه ؛ لأنَّ جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء ، فبالغ الشَّرع في المنع من التطفيف والنقصان ؛ لأجل إبقاء الأموال ؛ ومنعاً من تلطيخ النفس بسرقةِ ذلك المقدار الحقير ، ثم قال : " ذلك خير " ، أي الإيفاء بالتَّمام والكمال خير من التطفيف بالقليل ؛ لأنَّ الإنسان يتخلَّص بالإيفاء عن ذكر القبيح في الدنيا ، والعقاب الشديد في الآخرة .

{ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } منصوب على التفسير ، والتأويل ما يئولُ إليه الأمر ؛ كقوله تعالى : { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } [ مريم : 76 ] ، { وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] { وَخَيْرٌ عُقْباً } [ الكهف : 44 ] ، وإنما حكم الله تعالى بأنَّ عاقبة هذا الأمر أحسنُ العواقب ؛ لأنه إذا اشتهر في الدنيا بالاحتراز عن التطفيف ، أحبَّه الناس ، ومالت القلوبُ إليه ، واستغنى في الزَّمنِ القليل .

وأمَّا في الآخرة : فيفوزُ بالجنَّة والثوابِ العظيمِ ، والخلاصِ من العقاب الأليم .


[20409]:ينظر: السبعة 380، والنشر 2/307، والتيسير 140، والإتحاف 2/197، والحجة للقراء السبعة للفارسي 5/106، والقرطبي 10/167، والبحر 6/31، والحجة 402، والدر المصون 4/389.