تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ إِذَا كِلۡتُمۡ وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلٗا} (35)

{ وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ( 35 ) }

المفردات :

وأوفوا الكيل : أتموه .

القسطاس المستقيم : الميزان السوي .

تأويلا : مآلا .

التفسير :

35- { وأوفوا الكيل إذا كلتم . . . }

أي : أتموه إذا كلتم لغيركم ولا تبخسوه .

{ وزنوا بالقسطاس المستقيم } . أي : بالميزان السوي بلا اعوجاج ولا خديعة { ذلك خير } أي : أي لكم في معاشكم لإقبال المشترين عليكم ولانتظام أموركم بالعدل ، وإيفاء الحقوق أربابها { وأحسن تأويلا } أي : عاقبة ومآلا ، إذ ليس معه مظلمة يطالب بها يوم القيامة .

وكثير من الفقراء الذين اشتهروا بالأمانة والبعد عن الخيانة ؛ أقبلت عليهم الدنيا وجمعوا بين الثورة والغنى وبين مرضاة الله وطاعته .

روى ابن كثير في تفسيره : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به ؛ إلا مخافة الله ؛ إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو له خير من ذلك ) .

وقد شدد القرآن في التحذير من تطفيف الكيل وتوعد فاعله بالعذاب الشديد فقال تعالى : { ويل للمطففين . الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون . وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون } . ( المطففين : 3 ، 1 ) .

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من عدل في الكيل والتزم الأمانة وابتعد عن الغش ){[396]} كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ( أن التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) {[397]} ؛ لأن الشيطان يأتي له من ناحية الكيل والبيع والغش وإغلاء الأسعار .

ونظرا لأن الناس جميعا محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء ؛ فقد بالغ في النهي عن الغش في البيع والشراء وحذر منه وتوعد فاعله بأشد العقاب ؛ سعيا في إبقاء الأموال لأربابها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من غشنا فليس منا ){[398]} .

ثم إن الطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس ، وغش وخيانة في التعامل تزعزع بهما الثقة ويتبعهما الكساد ، وتقل بهما البركة في محيط الجماعة فيرتد هذا على الأفراد ، وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف{[399]} وهو كسب ظاهري ووقتي ؛ لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين .

وهذه حقيقة أدركها بعيدوا النظر في عالم التجارة فاتبعوها ، ولم يكن الدافع الأخلاقي أو الحافز الديني هو الباعث عليها ، بل مجرد إدراكها في واقع السوق بالتجربة العملية .

والفارق بين من يلتزم إيفاء الكيل والميزان تجارة ومن يلتزمه اعتقادا ، أن هذا يحقق أهداف ذلك ، ويزيد عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العلمي إلى آفاق أعلى من الأرض ، وأوسع في تصور الحياة وتذوقها وكذلك يحقق الإسلام دائما أهداف الحياة العلمية وهو ماض في طريقه إلى آفاقه الوضيئة وآماده البعيدة ومجالاته الرحيبة .


[396]:- إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا: رواه الترمذي في البيوع (1210) وابن ماجة في التجارات (2146) من حديث رفاعة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: (يا معشر التجار) فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: (إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من التقى الله وبر وصدق). وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
[397]:- التاجر الصدوق الأمين مع: رواه الترمذي في البيوع (1209) والدارمي في البيوع (2539) من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. ورواه ابن ماجة في التجارات (2139) من حديث بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة).
[398]:- من غشنا فليس منا: رواه مسلم في الإيمان (101) وأحمد في مسنده (27500) من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا). ورواه أحمد في مسنده (5092) والدارمي في البيوع (2541) ابن عمر قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام وقد حسنه صاحبه فأدخل يده فيه فإذا طعام رديء فقال: (بع هذا على حدة وهذا على حدة فمن غشنا فليس منا). ورواه ابن ماجة في التجارات (2225) من حديث أبي الحمراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه مر بجنبات رجل عنده طعام في وعاء فأدخل يده فيه فقال: لعلك غششت! من غشنا فليس منا). ورواه أحمد في مسنده (15406) من حديث أبي بردة بن نيار قال: انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى نقيع المصلى فأدخل يده في طعام ثم أخرجها فإذا هو مغشوش أو مختلف فقال: (ليس منا من غشنا).
[399]:- التطفيف إنقاص الكيل أو الوزن، وسمي بذلك؛ لأن المطفف لا يكاد يأخذ إلا الشيء الطفيف القليل.