ثم يعقب القرآن على مصرعهم بالرد على قولتهم : إن من يتبع شعيبا خاسر ، فيقرر على سبيل التهكم أن الخسران لم يكن من نصيب من اتبع شعيبا ، وإنما الخسران كان من نصيب الذين خالفوه وكذبوه ، فيقول : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين } .
أى : الذين كذبوا شعيبا وتطاولوا عليه وهددوه وأتباعه بالاخراج من قريتهم ، كأنهم عندما حاقت بهم العقوبة لم يقيموا في ديارهم ناعمى البال ، يظلهم العيش الرغيد ، والغنى الظاهر .
يقال : غنى بالمكان يغنى ، أقامبه وعاش فيه في نعمة ورغد .
والجلمة الكريمة استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم : { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ } فكأن سائلا ، قال : فكيف كان مصيرهم ؟ فكان الجواب : الذين هددوا شعيبا ومن معه وأنذروهم بالاخراج كانت عاقبتهم أن هلكوا وحرموا من قريتهم حتى لكأنهم لم يقيموا بها ، ولم يعيشوا بالاخراج كانت عاقبتهم أن هلكوا وحرموا من قريتهم حتى لكأنهم لم يقيموا بها ، ولم يعيشوا فيها مطلقا ، لأنه متى انقضى الشىء صار كأنه لم يكن .
والاسم الموصول { الذين } مبتدأ ، وخبره جملة { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } .
ثم أعاد القرآن الموصول وصلته لزيادة التقرير ، وللإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة هو الذي استوجب العقوبتين فقال : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين } .
أى : الذين كذبوا شعيبا وكفروا بدعوته كانوا هم الخاسرين دينيا ودنيويا ، وليس الذين اتبعوه كما زعم أولئك المهلكون .
وبهذا القدر اكتفى القرآن عن التصريح بإنجائه هنا ، وقد صرح بإنجائه في سورة هود فقال : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ } قال صاحب الكشاف : وفى هذا الاستئناف والابتداء ، وهذا التكرير ، مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم ، وتسفيه لرأيهم ، واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم
ويرد السياق على قولتهم : ( لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون ) . . وهي التي قالوها مهددين متوعدين للمؤمنين بالخسارة ! فيقرر - في تهكم واضح - أن الخسران لم يكن من نصيب الذين اتبعوا شعيباً ، إنما كان من نصيب قوم آخرين :
( الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها . الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين )
ففي ومضة ها نحن أولاء نراهم في دارهم جاثمين . لا حياة ولا حراك . كأن لم يعمروا هذه الدار ، وكأن لم يكن لهم فيها آثار !
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ كَذّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الّذِينَ كَذّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : فأهلك الذين كذّبوا شعيبا فلم يؤمنوا به ، فأبادهم ، فصارت قريتهم منهم خاوية خلاء كأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها يقول : كأن لم ينزلوا قطّ ، ولم يعيشوا بها حين هلكوا ، يقال : غَنِيَ فلان بمكان كذا فهو يَغْنَى به غِنًى وغُنِيّا : إذا نزل به وكان به ، كما قال الشاعر :
وَلَقَدْ يَغْنَى بِهِ جِيرانُكِ ال ***مُمِسْكُو مِنْكِ بعَهْدٍ وَوِصَالِ
***وَعَهْدُ مَغْنَى دِمْنَةٍ بِضَلْفَعا ***
إنما هو مَفْعَل من غَنِي . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : كأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها : كأن لم يعيشوا ، كأن لم ينعموا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : كأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها يقول : كأن لم يعيشوا فيها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كأن لم يكونوا فيها قطّ .
وقوله : الّذِينَ كَذّبُوا شُعَيْبا كانُوا هُمُ الخاسِرِينَ يقول تعالى ذكره : لم يكن الذين اتبعوا شعيبا الخاسرين ، بل الذين كذبوه كانوا هم الخاسرين الهالكين ، لأنه أخبر عنهم جلّ ثناؤه أن الذين كذّبوا شعيبا قالوا للذين أرادوا اتباعه : «لَئِنِ اتّبَعْتُمْ شُعَيْبا إنّكُمْ إذًا لخَاسِرُونَ » فكذّبهم الله بما أحلّ بهم من عاجل نكاله ، ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ما خسر تُبّاع شعيب ، بل كان الذين كذّبوا شعيبا لما جاءت عقوبة الله هم الخاسرين دون الذين صدّقوا وآمنوا به .
جملة : { الذين كذبوا شعيباً } مستأنفة ابتدائية ، والتعريف بالموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وهو أن اضمحلالهم وانقطاع دابرهم كان جزاء لهم على تكذيبهم شعيباً .
ومعنى : { كأن لم يَغنَوا فيها } تشبيه حالة استيصالهم وعفاء آثارهم بحال من لم تسبق لهم حياة ، يقال : غَنَى بالمكان كرَضي أقام ، ولذلك سمي مكان القوم مغنى .
قال ابن عطية : « الذي استقريتُ من أشعار العرب أن غَنى معناه : أقام إقامة مقترنة بتنعم عيش ويشبه أن تكون مأخوذة من الاستغناء » أي كأن لم تكن لهم إقامة ، وهذا إنما يُعنى به انمحاء آثارهم كما قال : { فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس } [ يونس : 24 ] ، وهو يرجح أن يكون أصابهم زلزال مع الصواعق بحيث احترقت أجسادهم وخُسف لهم في الأرض وانقلبت ديارهم في باطن الأرض ولم يبق شيء أو بقي شيء قليل . فهذا هو وجه التشبيه ، وليس وجه التشبيه حالة موتهم لأن ذلك حاصل في كل ميت ولا يختص بأمثال مدين ، وهذا مثل قوله تعالى : { فهل ترى لهم من باقية } [ الحاقة : 8 ] .
وتقديم المسند إليه في قوله : { الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين } إذا اعتُبرت { كانوا } فعلاً ، واعتبر المسند فعلياً فهو تقديم لإفادة تقوي الحكم ، وإن اعتبرت ( كان ) بمنزلة الرابطة ، وهو الظاهر ، فالتقوي حاصل من معنى الثبوت الذي تفيده الجملة الاسمية .
والتكرير لقوله : { الذين كذبوا شعيباً } للتعديد وإيقاظ السامعين ، وهم مشركو العرب ، ليتقوا عاقبة أمثالهم في الشرك والتكذيب على طريقة التعريض ، كما وقع التصريح بذلك في قوله تعالى : { وللكافرين أمثالها } [ محمد : 10 ] .
وضمير الفصل في قوله : { كانوا هم الخاسرين } يفيد القصر وهو قصر إضافي ، أي دون الذين اتبعوا شعيباً ، وذلك لإظهار سَفه قول الملإ للعامة { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذن لخاسرون } توقيفاً للمعتبرين بهم على تهافت أقوالهم وسفاهة رأيهم ، وتحذيراً لأمثالهم من الوقوع في ذلك الضلال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.