اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيۡبٗا كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَاۚ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيۡبٗا كَانُواْ هُمُ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (92)

قوله : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً } فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن هذا الموصول في محل رفع بالابتداء وخبره الجملة التشبيهية بعده .

قال الزمخشري{[16555]} : " وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص ، كأنه قيل : الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهْلِكوا واستُؤصلوا كأن لم يُقيموا في دارهم ؛ لأن الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى " .

قال شهاب الدين{[16556]} : " قوله : " يفيد الاختصاص " هو معنى قول الأصوليين : " يفيد الحصر " على خلاف بينهم في ذلك إذا قلت : زيد العالم ، والخلاف في قولك : العالم زيد أشهرُ منه فيما تقدَّم فيه المبتدأ " .

الثاني : أن الخبر هو نفس الموصول الثاني وخبره ، فإن الموصول الثاني مبتدأ والجملةُ من قوله : { كانوا هم الخاسرين } في محل رفع خبراً له ، وهو وخبره خبر الأول ، و{ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } : إمَّا اعتراض ، وإمَّا حال من فاعل " كذَّبوا " .

الثالث : أن يكون الموصولُ الثاني خبراً بعد خبر عن الموصول الأول ، والخبر الأول الجملة التشبيهية .

الرابع : أن يكون الموصول الثاني بدلاً من قوله : { وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } [ الأعراف : 90 ] فكأنه قال : " وقال الذين كفروا منهم الذين كذّبوا شعيباً " وقوله : { لئن اتبعتم شعيباً } معمول للقول فليس بأجنبي .

الخامس : أنه صفة له ، أي : للذين كفروا من قومه .

هذه عبارة عن أبي البقاء{[16557]} ، وتابعه أبو حيان{[16558]} عليها ، والأحسن أن يقال : بدلٌ من الملأ أو نعت له ؛ لأنه هو المحدَّثُ عنه والموصول صفة له ، والجملة التشبيهية على هذين الوجهين حال من فاعل " كذَّبوا " .

وأمّا الموصول الثاني فقد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً باعتبارين : أعني كونه أول أو ثانياً ، ويجوز أن يكون بدلاً من فاعل " يغنوا " أو منصوباً بإضمار " أعني " أو مبتدأ وما بعده الخبر . وهذا هو الظاهر لتكون كل جملة مستقلة بنفسها ، وعلى هذا الوجه ذكر الزمخشري{[16559]} أيضاً أن الابتداء يفيد الاختصاص قال : " أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه ، وقد تقدَّم موضحاً " .

قوله : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } يغنون : بمعنى يقيمون يقال : غَنِي بالمكان يَغْنى فيه أي : أقام دهراً طويلاً ، والمغاني المنازل التي كانوا فيها واحدها مغنى ، وقيَّده بعضهم بالإقامة في عيش رغد ، فهو أخصُّ من مطلق الإقامة ؛ قال الأسَودُ بْنُ يَعْفُرَ : [ الكامل ]

وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا بأنْعَمِ عِيشَةٍ *** فِي ظِلِّ مَلْكٍ ثَابتِ الأوْتَادِ{[16560]}

وقيل : معنى الآية هنا من الغِنَى الذي هو ضد الفقر ، قاله الزجاج{[16561]} وابن الأنباري وتابعهما ابن عطية{[16562]} ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]

غَنِيَا زَمَاناً بالتَّصَعْلُك والغِنَى *** [ كما الدَّهرُ في أيَّامِهِ العُسْرُ واليُسْرُ ]

كَسَبْنَا صُرُوفَ الدَّهْرِ لِيناً وغلْظَةً *** وكُلاًّ سَقَانَاهُ بِكأسمهما الدَّهْرُ{[16563]}

قالوا : معناه استغنينا ورضينا ، فمعنى { كأن لم يغنوا فيها } كأن لم يعيشوا فيها مستغنين .

قال ابن الخطيب{[16564]} : فعلى هذا التفسير شبّه الله - تعالى - حال هؤلاء المكذبين بحال من من لم يكن قط في تلك الديار قال الشاعر : [ الطويل ]

كأن لم يَكُنْ بَيْنَ الحجون إلى الصفا *** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بَلَى نَحْنُ كُنَّا أهْلَهَا فأبَادَنَا *** صُرُوفُ اللَّيَالِي والحُدُودُ العَواثِرُ{[16565]}

وقدّر الراغب غني بمعنى الإقامة بالمكان إلى معنى الغنى الذي هو ضد الفقر فقال : { وغني في مكان كذا إذا طال مقامه فيه مُسْتَغْنِياً به عن غيره } .

قوله : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كأن لم يغنوا } كرر قوله : { الذين كذبوا شعيباً } تعظيماً لذمهم وتعظيماً لما يستحقون من الجزاء ، والعرب تكرر مثل هذا في التعظيم والتفخيم ، فيقول الرجل لغيره : " أخوك الذي ظلمنا ، أخوك الذي أخذ أموالنا ، أخوك الذي هنا أعراضنا " ، ولمَّا قال القوم : { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون } بيَّن الله - تعالى - أن الذين لم يتبعوه وخافوه هم الخاسرون ، وقد تقدم الكلام على قوله : " فتولّى عنهم " في أن التولي بعد نزول العذاب أو قبله .

قال الكلبي : " لم يعذب قوم نبي حتى أخرج من نبيهم " .

فصل في الدلالة من الآية

دلّت الآية على أشياء : منها : أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار لا بتأثير الكواكب والطبيعة ، وإلا لحصل في أتباع شعيب كما حصل للكفّار .

[ ومنها أنها تدل على أن ذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات حتى يمكن التمييز بين المطيع والعاصي ]{[16566]} .

ومنها : أنها تدل على المعجز العظيم في حق شعيب - عليه السلام - ؛ لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجموعين في بلدة واحدة كان ذلك من أعظم المعجزات .


[16555]:ينظر: الكشاف 2/131.
[16556]:ينظر: الدر المصون 3/305-306.
[16557]:ينظر: الإملاء 1/280.
[16558]:ينظر: البحر المحيط 4/348.
[16559]:ينظر: الكشاف 2/131.
[16560]:ينظر: الرازي 14/148، والدر المصون 3/306.
[16561]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 2/396.
[16562]:ينظر: المحرر الوجيز 2/430.
[16563]:ينظر: القرطبي 7/161، والمحرر الوجيز 2/430، وروح المعاني 5/6. واللسان (صعلك).
[16564]:ينظر الرازي 14/148.
[16565]:البيتان لعمرو بن الحارث بن مضاص أو للحارث الجرهمي. ينظر لسان العرب (حجن)، ومعجم البلدان 2/260، والفخر الرازي 14/148، والمحرر الوجيز 2/430.
[16566]:سقط من ب.