الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيۡبٗا كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَاۚ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيۡبٗا كَانُواْ هُمُ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (92)

قوله تعالى : { الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً } : فيه خمسة أوجه ، أحدُها : أن هذا الموصولَ في محل رفع بالابتداءِ وخبرُه الجملةُ التشبيهية بعده . قال الزمخشري : " وفي هذا الابتداءِ معنى الاختصاص كأنه قيل : الذين كَذَّبوا شُعَيْباً هم المخصوصون بأن أُهْلِكوا واسْتُؤْصلوا ، كأنْ لم يُقيموا في دارهم ، لأنَّ الذين اتَّبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى " . قلت : قوله " يفيد الاختصاص " هو معنى قولِ الأصوليين : " يفيد الحصر " على خلاف بينهم في ذلك ، إذا قلت : " زيد العالم " ، والخلافُ في قولك " العالم زيد " أشهرُ منه فيما تقدَّم فيه المبتدأ .

الثاني : أن الخبرَ هو نفسُ الموصول الثاني وخبره ، / فإن الموصول الثاني مبتدأ ، والجملةُ من قوله { كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ } في محل رفع خبراً له ، وهو وخبرهُ خبر الأول ، و { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } : إمَّا اعتراضٌ وإمَّا حالٌ من فاعل " كذَّبوا " . الثالث : أن يكونَ الموصولُ الثاني خبراً بعد خبرٍ عن الموصول الأول ، والخبرُ الأولُ الجملةُ التشبيهية كما تقدَّم . الرابع : أن يكونَ الموصولُ بدلاً مِنْ قولِه قبلُ { الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } [ الأعراف : 90 ] كأنه قال : " وقال الملأُ الذين كفروا منهم الذين كذَّبوا شُعَيْباً " وقوله : { لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً } معمولٌ للقول فليس بأجنبي . الخامس : أنه صفةٌ له أي : للذين كفروا مِنْ قومه . هذه عبارةُ أبي البقاء ، وتابعه الشيخ عليها . والأحسنُ أن يُقال : بدلٌ من الملأ أو نعتٌ له ، لأنه هو المحدِّثُ عنه والموصولُ صفةٌ له ، والجملةُ التشبيهيةُ على هذين الوجهين حالٌ من فاعل " كذَّبوا " .

وأما الموصولُ الثاني فقد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكونَ خبراً باعتبارين : أعني كونَه أولَ أو ثانياً ، ويجوز أن يكونَ بدلاً من فاعل " يَغْنَوا " أو منصوباً بإضمار " أعني " أو مبتدأ وما بعده الخبر . وهذا هو الظاهر لتكونَ كلُّ جملة مستقلةً بنفسها . وعلى هذا الوجهِ ذكر الزمخشري أيضاً أن الابتداءَ يفيد الاختصاص قال : " أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دونَ أتباعه ، وقد تقدَّم موضحاً .

وقوله : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } يَغْنَوْن : بمعنى يُقيمون يقال : غَنِي بالمكان يَغْنى فيه أي : أقام دهراً طويلاً ، وقيَّده بعضُهم بالإِقامة في عيشٍ رغد فهو أخصُّ من مُطْلق الإِقامة . قال الأسود بن يعفر :

ولقد غَنَوا فيها بأنعمِ عيشةٍ *** في ظلِّ مَلْكٍ ثابتِ الأوتادِ

وقيل : معنى الآيةِ هنا من الغِنى الذي هو ضد الفقر ، قاله الزجاج فقال : " وغَنِي في مكان كذا : إذا طالَ مَقامُه فيه مُسْتَغْنياً به عن غيره " .