مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيۡبٗا كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَاۚ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيۡبٗا كَانُواْ هُمُ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (92)

ثم قال تعالى : { الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها } وفيه بحثان :

البحث الأول : في قوله : { كأن لم يغنوا فيها } قولان : أحدهما : يقال غني القوم في دارهم إذا طال مقامهم فيها . والثاني : المنازل التي كان بها أهلوها واحدها مغني . قال الشاعر :

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة *** في ظل ملك ثابت الأوتاد

أراد أقاموا فيها ، وعلى هذا الوجه كان قوله : { كأن لم يغنوا فيها } كأن لم يقيموا بها ولم ينزلوا فيها .

والقول الثاني : قال الزجاج : كأن لم يغنوا فيها ، كأن لم يعيشوا فيها مستغنين ، يقال غني الرجل يغنى إذا استغنى ، وهو من الغني الذي هو ضد الفقر .

وإذا عرفت هذا فنقول : على التفسيرين شبه الله حال هؤلاء المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار . قال الشاعر :

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا *** صروف الليالي والجدود العواثر

البحث الثاني : قوله : { الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها } الذين يدل على أن ذلك العذاب كان مختصا بأولئك المكذبين ، وذلك يدل على أشياء : أحدها : أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار ، وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة ، وإلا لحصل في أتباع شعيب ، كما حصل في حق الكفار . والثاني : يدل على أن ذلك الفاعل المختار ، عالم بجميع الجزئيات ، حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي . وثالثها : يدل على المعجز العظيم في حق شعيب ، لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلدة واحدة ، كان ذلك من أعظم المعجزات .

ثم قال تعالى : { الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين } وإنما كرر قوله : { الذين كذبوا شعيبا } لتعظيم المذلة لهم وتفظيع ما يستحقون من الجزاء على جهلهم ، والعرب تكرر مثل هذا في التفخيم والتعظيم ، فيقول الرجل لغيره : أخوك الذي ظلمنا ، أخوك الذي أخذ أموالنا ، أخوك الذي هتك أعراضنا ، وأيضا أن القوم لما قالوا : { لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون } بين تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون .