روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيۡبٗا كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَاۚ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيۡبٗا كَانُواْ هُمُ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (92)

{ الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا } استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم : { لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا } [ الأعراف : 88 ] والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } أي لم يقيموا في دارهم ، وقال قتادة : المعنى كأن لم يعيشوا فيها مستغنين ، وذكر غير واحد أنه يقال : غنى بالمكان يغني غني وغنياناً إذا أقام به دهراً طويلاً ، وقيده بعضهم بالإقامة في عيش رغد ، وقال ابن الأنباري كغيره : إنه من الغنى ضد الفقر كما في قول حاتم :

غنينا زماماً بالتصعلك والغنى *** فكلا سقاناه بكأسهما الدهر

فما زادنا بغياً على ذي قرابة *** غنانا ولا أزري بأحسابنا الفقر

وعلى هذا تفسير قتادة ، ورد الراغب غنى بمعنى أقام إلى هذا المعنى فقال : غنى بالمكان طال مقامه فيه مستغنياً به عن غيره ، وقول بعضهم في بيان الآية : إنهم استؤصلوا بالمرة بيان لحاصل المعنى ، وفي بناء الخبر على الموصول إيماء إلى أن علة الحكم هي الصلة فكأنه قيل : الذي كذبوا شعيباً هلكوا لتكذيبهم إياه هلاك الأبد ، ويشعر ذلك هنا بأن مصدقيه عليه السلام نجوا نجاة الأبد ، وهذا مراد من قال بالاختصاص في الآية ، وقيل : إنه مبني على أن مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الاختصاص نحو { الله يَبْسُطُ الرزق } [ الرعد : 26 ] والقرينة عليه هنا أنه سبحانه ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا الإهلاك المكذبين ، ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجاً لا دخول بعده دون شعيب عليه السلام ومن معه ، وقوله تعالى : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين } استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير ، واستفادة الحصر هنا أوشح من استفادته فيما تقدم ، أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بقولهم { لَئِنْ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون } [ الأعراف : 90 ] فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لتكذيبهم لا المتبعون له عليه السلام المصدقون إياه عليه السلام ، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بالانجاء كما وقع في سورة هود من قوله تعالى : { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } [ هود : 94 ] الخ ، وفي «الكشاف » أن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم بقومهم واستعظام لما جرى عليهم . وأنت تعلم أن في استفادة ذلك كله من نفس هذه الآية خفاء ، والظاهر أن مجموع الاسئنافين مؤذن به . وبين الطيبي ذلك بأنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة وتكرهم هامدين لا حراك بهم على التكذيب والعناد اتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم ؟ فقيل : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } أي إنهم استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا فيها .

ثم سأل أخصص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم ؟ فقيل : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين } أي اختص بهم الدمار فجعلت الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر كقوله :

أن التي ضربت بيتاً مهاجرة *** بكوفة الجند غالبت ودها غول

وكذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم وجيء بتقوى الحكم والتخصيص وجعلت الصلة الثانية علة لوجود الخبر ، وجاء تسفيه الرأي من الرد عليهم بعين ما تلفظوا به في نصح قومهم ، والاستهزاء من الإشارة إلى أن ماجعلوه نصيحة صار فضيحة وانعكس الحال الذي زعموه ؛ ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام الجنس . وأما استعظام ما جرى فمن قوله سبحانه : { كَأَن لَّمْ } الخ وكذا من مجموع الكلام ، ولايخفى أن القول بالاستئناف البياني في الجملتين وجعل الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر ليس بشيء ، وقد ذكر غير واحد أن هذا الاستئناف من غير عطف جار على عادة العرب في مثل هذا المقام فإن عادتهم الاستئناف كذلك في الذم والتوبيخ فيقولون : أخوك الذين نهب مالنا أخوك الذي هتك سترنا أخوك الذي ظلمنا ، وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول الثاني بدلاً من الضمير في { يُغْنُواْ } وأن يكون في محل نصب بإضمار أعني ، وأن يكون الأول مبتدأ والخبر { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ } و { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ } حال من ضمير { كَذَّبُواْ } وأن يكون الأول صفة للذين كفروا أو بدلاً منه وعلى الوجهين يكون { كَأَن لَّمْ } الخ حالاً ، وما اخترناه هو الأولى كما هو ظاهر فليتدبر .

وقوله سبحانه :