معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (43)

قوله تعالى : { إذ يريكهم الله } يريك يا محمد المشركين .

قوله تعالى : { في منامك } ، أي : في نومك ، وقال الحسن : في منامك أي في عينك ، لأن العين موضع النوم .

قوله تعالى : { قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم } ، لجبنتم .

قوله تعالى : { ولتنازعتم } ، أي : اختلفتم .

قوله تعالى : { في الأمر } ، أي : في الإحجام والإقدام .

قوله تعالى : { ولكن الله سلم } ، أي سلمكم من المخالفة والفشل .

قوله تعالى : { إنه عليم بذات الصدور } . قال ابن عباس : علم ما في صدوركم من الحب لله عز وجل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (43)

ثم يبين - سبحانه - بعض وجوه نعمه على المؤمنين ، وتدبيره الخفى لنصرهم وفوزهم فيقول : { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر ولكن الله سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .

أى : اذكر يا محمد فضل الله عليك وعلى أصحابك ، حيث أراك في منامك الكافرين قليلا عددهم ، ضئيلا وزنهم فأخبرت بذلك اتباعك فازدادوا ثباتا واطمئنانا وجرأة على عدوهم { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً } أى : ولو أراك الأعداء عددا كثيرا { لَّفَشِلْتُمْ } أى : لتهيبتهم الإِقدام عليهم ، لكثرة عددهم ، من الفشل وهو ضعف مع جبن { وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر } أى : في أمر الإِقدام عليهم والاحجام عنهم . فمنكم من يرى هذا ومنكم من يرى ذلك .

وقوله { لأَمْرِ ولكن الله سَلَّمَ } بيان لمحل النعمة . أى : ولكن الله - تعالى - بفضله وإحسانه أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والنزاع وتفرق الآراء في شأن القتال : حيث ربط على قلوبكم ، ورزقكم الجرأة على أعدائكم وعدم المبالاة بهم بسبب رؤيا نبيكم .

وقوله : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } تذييل يدل على شمول علمه - سبحانه - .

أى : إنه - سبحانه - عليكم بكل ما يحصل في القلوب وما يخطر بها من شجاعة وجبن ومن صبر وجزع ولذلك دير ما دبر .

قال الفخر الرازى ، قال مجاهد : أرى الله النبى - صلى الله عليه وسلم - كفار قريش في منامه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه فقالوا : رؤيا النبى حق . القوم قليل ، فصار ذلك سببا لجرأتهم وقوة قلوبهم .

فإن قيل : رؤية الكثر قليلا غلط ، فيكف يجوز من الله - تعالى - أن يفعل ذلك ؟

قلنا : ذهبنا أنه - تعالى - يفعل ما يشاء ويحكم ما يريده وأيضا لعله - سبحانه - أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون .

ونستطيع أن نضيف إلى ما أجاب به الفخر الرازى أنه يجوز أن يكون المراد بالقلة : الضعف وهوان الشأن . .

أى : أن المشركين وإن كانوا في حقيقتهم يقاربون الألف - أي أكثر من ثلاثة أمثال المؤمنين - إلا أنهم لا قوة لهم ولا وزن ، فهم كثير عددهم ولكن قليل غناؤهم ، قليل وزنهم في المعركة . لأنهم ينقصهم الإِيمان الصحيح الذي يقوى القلوب ، ويدفع النفوس إلى الإِقدام لنصرة الحق لكى تفوز برضا الله وحسن مثوبته .

وإلى هذا المعنى أشار صاحب المنار بقوله : وقد تقدم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قدر عدد المشركين بألف وأخبر أصحابه بذلك ، ولكنه أخبرهم مع هذا أنه رآهم في منامه قليلا ، لا أنهم قليل في الواقع ، فالظاهر أنهم أولوا الرؤيا بأن بلاءهم يكون قليلا ، وأن كيدهم يكون ضعيفا ، فتجروا وقويت قلوبهم .

هذا ، ونسب إلى الحسن أنه ذكر أن هذه الآراء كانت في اليقظة ، وأن المراد من المنام العين التي هى موضع النوم . قال الزمخشري . وهذا تفسير فيه تعسف . وما أحسبت الرواية صحيحة فيه عن الحسن .

وقال الآلوسى : وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين ، لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة المنامة لأنها ينام فيها ، فلم يكن عنده هناك رؤيا أصلا بل كانت رؤية ، وإليه ذنب البالخى . ولا يخفى ما فيه ، لأن المنام شائع بمعنى النوم مصدر ميمى . ففى الحمل على خلاف ذلك تعقيد ولا نكتة فيه . . على أن الروايات الجمة برؤيته - صلى الله عليه وسلم - إياهم مناما ، وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون العين مكان النوم نظرا إلى الظاهر . . ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة ، فانه الفصيح العالم بكلام العرب .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (43)

41

إن وراء هذا التلاقي على غير موعد - بهذه الدقة وبهذا الضبط - لأمراً مقضياً يريد الله تحقيقه في عالم الواقع ، ويدبر له هذا التدبير الخفي اللطيف ؛ ويجعلكم أنتم أداة تحقيقه ، ويهيئ له جميع الظروف التي تيسر لكم القيام به !

أما هذا الأمر المقتضى الذي دبر الله الظروف لتحقيقه فهو الذي يقول عنه :

ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة . .

والهلاك يعبر به عن مدلوله المباشر ، كما يعبر به عن الكفر . وكذلك الحياة فإنها قد تفيد مدلولها المباشر وقد يعبر بها عن الإيمان . . وهذا المدلول الثاني أظهر هنا ، وذلك كما قال الله سبحانه في مثل هذا المعنى : ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ? ) . . فعبر عن الكفر بالموت وعبر عن الإيمان بالحياة ؛ وجرى في هذا على نظرة الإسلام لحقيقة الكفر وحقيقة الإيمان . هذه النظرة التي أوضحناها بشيء من التفصيل عند استعراض هذه الآية من سورة الأنعام في الجزء الثامن

ووجه ترجيح هذا المدلول هنا أن يوم بدر - كما قال الله سبحانه - كان ( يوم الفرقان )وقد فرق الله فيه بين الحق والباطل - كما ذكرنا منذ قليل - ومن ثم فإن من يكفر بعدها فإنما يكفر في غير شبهة - يكفر عن بينة فيهلك عن بينة - ومن يؤمن بعدها فإنما يؤمن عن بينة واضحة تبرزها المعركة . .

إن الموقعة - بظروفها التي صاحبتها - تحمل بينة لا تجحد ، وتدل دلالة لا تنكر ، على تدبير وراء تدبير البشر ، وعلى قوى وراءها غير قوة البشر . . إنها تثبت أن لهذا الدين رباً يتولى أصحابه متى أخلصوا له وجاهدوا في سبيله وصبروا وثبتوا ، وأنه له كان الأمر إلى القوى المادية الظاهرة ما هزم المشركون ولا انتصرت العصبة المسلمة هذا الانتصار العظيم . .

ولقد قال المشركون أنفسهم لحليفهم الذي أراد أن يمدهم بالرجال وهم ذاهبون للقتال : " فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة " ! ولقد علموا - لو كان العلم يجدي - أنهم إنما يقاتلون الله كما قال لهم محمد الصادق الأمين ، وأنه ما لأحد بالله من طاقة . . فإذا هلكوا بعد ذلك بالكفر فإنما يهلكون عن بينة !

هذا ما يتبادر إلى الذهن من معنى هذا التعقيب : ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة

ولكن يبقى وراءه إيحاء آخر :

إن وقوع المعركة بين جند الحق وجند الباطل ؛ واستعلاء سلطان الحق في عالم الواقع - بعد استعلائه فيعالم الضمائر - إن هذا كله مما يعين على جلاء الحق للعيون والقلوب ؛ وعلى إزالة اللبس في العقول والنفوس ؛ بحيث يتبين الأمر بهذا الفتح ويتجلى ؛ فلا تعود لمن يختار الهلاك - أي الكفر - شبهة في الحق الذي استعلن واستعلى ؛ كما أن الذي يريد أن يحيا - أي يؤمن - لا يعود لديه شك في أن هذا هو الحق الذي ينصره الله ، ويخذل الطغاة .

وهذا يعود بنا إلى ما قدمناه في الجزء التاسع - في التعريف بسورة الأنفال - من الحديث عن ضرورة الجهاد لتحطيم قوى الشر وسلطان الطاغوت ؛ وإعلاء راية الحق وسلطان الله . . فهذا مما يعين على جلاء الحق : ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة . . كما أن هذه اللفتة تساعدنا على تفهم أبعاد الإيحاء الذي يعطيه قول الله تعالى ، في هذه السورة : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . . . )فإعداد القوة والإرهاب بها مما يعين على جلاء الحق في أنماط من القلوب . لا تستيقظ ولا تتبين إلا على إيقاعات القوة التي تحمل الحق وتنطلق به لإعلان تحرير " الإنسان " في " الأرض " كما أسلفنا .

والتعقيب على ذلك الجانب من التدبير الإلهي في المعركة ، وعلى غاية هذا التدبير التي تحققت فعلاً هو : ( وإن الله لسميع عليم ) . . .

فهو - سبحانه - لا يخفى عليه شيء مما يقول فريق الحق أو فريق الباطل ؛ ولا شيء مما يخفونه في صدورهم وراء الأقوال والأفعال ؛ وهو يدبر ويقدر باطلاعه على الظواهر وعلمه بالسرائر ، وهو السميع العليم . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (43)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلََكِنّ اللّهَ سَلّمَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } .

يقول تعالى ذكره : وإن الله يا محمد سميع لما يقول أصحابك ، عليم بما يضمرونه ، إذ يريك الله عدوّك وعدوّهم فِي مَنامِكَ قَلِيلاً يقول : يريكهم في نومك قليلاً فتخبرهم بذلك ، حتى قويت قلوبهم واجترءوا على حرب عدوّهم . ولو أراك ربك عدوّك وعدوّهم كثيرا لفشل أصحابك ، فجبنوا وخافوا ، ولم يقدروا على حرب القوم ، ولتنازعوا في ذلك ولكن الله سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا ، إنه عليم بما تخفيه الصدور ، لا يخفى عليه شيء مما تضمره القلوب .

وقد زعم بعضهم أن معنى قوله : إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً : أي في عينك التي تنام بها ، فصيرّ المنام هو العين ، كأنه أراد : إذ يريكهم الله في عينك قليلاً .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً قال : أراه الله إياهم في منامه قليلاً ، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك ، فكان تثبيتا لهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .

وقال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً . . . الاَية فكان أوّل ما أراه من ذلك نعمة من نعمه عليهم ، شجعهم بها على عدوّهم ، وكفاهم بها ما تخوف عليهم من ضعفهم لعلمه بما فيهم .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ فقال بعضهم : معناه : ولكن الله سلم للمؤمنين أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ يقول : سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولكن الله سلم أمره فيهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ قال : سلم أمره فيهم .

وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن عباس ، وهو أن الله سلم القوم بما أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه من الفشل والتنازع ، حتى قويت قلوبهم واجترءوا على حرب عدوّهم وذلك أن قوله : وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ عقيب قوله : وَلَوْ أرَاكَهُمْ كَثِيرا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ فالذي هو أولى بالخبر عنه ، أنه سلمهم منه جلّ ثناؤه ما كان مخوفا منه لو لم يُرِ نبيه صلى الله عليه وسلم من قلة القوم في منامه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (43)

{ إذ يريكهم الله } بدل من قوله : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } [ الأنفال : 42 ] فإنّ هذه الرؤيا ممّا اشتمل عليه زمان كونهم بالعدوة الدنيا لوقوعها في مدّة نزول المسلمين بالعدوة من بدر ، فهو بدل من بدل .

والمنام مصدر ميمي بمعنى النوم ، ويطلق على زمن النوم وعلى مكانه .

ويتعلق قوله : { في منامك } بفعل { يريكهم } ، فالإراءة إراءة رؤيا ، وأسندت الإراءة إلى الله تعالى ؛ لأنّ رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وحي بمدلولها ، كما دلّ عليه قوله تعالى ، حكاية عن إبراهيم وابنه { قال يا بُنَيّ إنّيَ أرى في المنام أنِّي أذْبَحُك فانْظُر ماذا ترى قال يا أبَتِ افعل ما تؤمر } [ الصافات : 102 ] فإنّ أرواح الأنبياء لا تغلبها الأخلاط ، ولا تجول حواسهم الباطنة في العبث ، فما رؤياهم إلاّ مكاشفات روحانية على عالم الحقائِق .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤيا منامٍ ، جيشَ المشركين قليلاً ، أي قليل العَدد وأخبر برؤياه المسلمين فتشجّعوا للقاء المشركين ، وحملوها على ظاهرها ، وزال عنهم ما كان يخامرهم من تهيّب جيش المشركين . فكانت تلك الرؤيا من أسباب النصر ، وكانت تلك الرؤيا منّة من الله على رسوله والمؤمنين ، وكانت قِلة العدد في الرؤيا رَمزاً وكناية عن وهن أمر المشركين لا عن قلّة عددهم .

ولذلك جعلها الله في رؤيا النوم دون الوحي ، لأنّ صور المَرائي المنامية تكَون رموزاً لمعان فلا تُعَدُّ صورتها الظاهرية خلفاً ، بخلاف الوحي بالكلام .

وقد حكاها النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين ، فأخذوها على ظاهرها ، لعلمهم أنّ رؤيا النبي وحي ، وقد يكون النبي قد أطلعه الله على تعبيرها الصائِب ، وقد يكون صرفه عن ذلك فظنّ كالمسلمين ظاهرها ، وكلّ ذلك للحكمة . فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لم تخطىء ولكنها أوهمتهم قلّة العَدد ، لأنّ ذلك مرغوبهم والمقصود منه حاصل ، وهو تحقّق النصْر ، ولو أخبروا بعدد المشركين كما هو لجبنُوا عن اللقاء فضعفت أسباب النصر الظاهرة المعتادة التي تكسبهم حسن الأحدوثة . ورؤيا النبي لا تخطىء ، ولكنها قد تكون جارية على الصورة الحاصلة في الخارج ، كما ورد في حديث عائشة في بدء الوحي : أنّه كان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فَلَق الصبح ، وهذا هو الغالب ، وخاصّة قبل ابتداء نزول المَلك بالوحي ، وقد تكون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم رمزية وكناية كما في حديث رؤياه بَقَراً تُذبح ، ويُقال له : الله خير ، فلم يعْلَم المراد حتّى تبيّن له أنّهم المؤمنون الذين قُتلوا يوم أُحد . فلمّا أراد الله خذل المشركين وهزمهم أرى نبيئه المشركين قليلاً كناية بأحد أسباب الانهزام ، فإنّ الانهزام يجيء من قلّة العدد . وقد يُمسك النبي عليه الصلاة والسلام عن بيان التعبير الصحيح لحكمة ، كما في حديث تعْبير أبي بكر رؤيا الرجل الذي قصّ رؤياه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول النبي له : " أصبتَ بعضاً وأخطأت بعضاً " وأبى أن يبيّن له ما أصاب منها وما أخطأ . ولو أخبر الله رسوله ليُخبر المؤمنين بأنّهم غالبون المشركون لآمنوا بذلك إيماناً عقلياً لا يحصل منه ما يحصل من التصوير بالمحسوس ، ولو لم يخبره ولم يُرِه تلك الرؤيا لكان المسلمون يحسبون للمشركين حساباً كبيراً . لأنّهم معروفون عندهم بأنّهم أقوى من المسلمين بكثير .

وهذه الرؤيا قد مضت بالنسبة لزمن نزول الآية ، فالتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالة الرؤيا العجيبة .

والقليل هنا قليل العَدد بقرينة قوله : { كثيرا } . أراه إيّاهم قليلي العدد ، وجعل ذلك في المكاشفة النومية كناية عن الوهن والضعف . فإنّ لغة العقول والأرواح أوسع من لغة التخاطب ، لأنّ طريق الاستفادة عندها عقلي مستند إلى محسوس ، فهو واسطة بين الاستدلال العقلي المحض وبين الاستفادة اللغوية .

وأخبر ب « قليل » و« كثير » وكلاهما مفرد عن ضمير الجمع لما تقدّم عند قوله تعالى : { معه ربيون كثير } [ آل عمران : 146 ] .

ومعنى : { ولو أراكهم كثيراً لفشلتم } أنّه لو أراكهم رؤيا مماثلة للحالة التي تبصرها الأعين ؛ لدخل قلوبَ المسلمين الفشلُ ، أي إذا حدثهم النبي بما رأى ، فأراد الله إكرام المسلمين بأن لا يدخل نفوسهم هلع ، وإن كان النصر مضموناً لهم .

فإن قلت : هذا يقتضي أنّ الإراءة كانت متعيّنة ولِمَ لَمْ يَتْرُك الله إراءتَه جيش العدوّ فلا تكونَ حاجة إلى تمثيلهم بعَدد قليل ، قلتُ : يظهر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجا أن يرى رؤيا تكشف له عن حال العدوّ ، فحقّق الله رجاءه ، وجنّبه ما قد يفضي إلى كدر المسلمين ، أو لعلّ المسلمين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعلم ربّه عن حال العدوّ .

والفشل : الجبن والوهن . والتنازع : الاختلاف . والمراد بالأمر الخطة التي يجب اتباعها في قتال العدوّ من ثبات أو انجلاء عن القتال .

والتعريف في { الأمر } للعهد وهو أمر القتال وما يقتضيه .

والاستدراك في قوله : { ولكن الله سلم } راجع إلى ما في جملة : { ولو أراكهم كثيراً } من الإشعار بأنّ العدوّ كثير في نفس الأمر ، وأنّ الرؤيا قد تحاكي الصورة التي في نفس الأمر ، وهو الأكثر في مرائي الأنبياء ، وقد تحاكي المعنى الرمزيَّ وهو الغالب في مرائي غير الأنبياء ، مثل رؤيا مَلِك مصر سبعَ بقرات ، ورؤيا صاحبي يوسف في السِّجْن ، وهو القليل في مرائي الأنبياء مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنّه هَزَّ سيفاً فانكسر في يده ، فمعنى الاستدْراك رفع ما فرض في قوله : { ولو أراكهم كثيراً } . فمفعول { سلم } ومتعلِّقه محذوفان إيجازاً إذ دلّ عليه قوله : { لفشلتم ولتنازعتم } والتقدير : سَلَّمكم من الفَشَل والتنازع بأن سلمكم من سببهما ، وهو إراءتكم واقِع عدد المشركين ، لأنّ الاطّلاع على كثرة العدوّ يلقي في النفوس تهيّباً له وتخوّفاً منه ، وذلك ينقص شجاعة المسلمين الذين أراد الله أن يوفّر لهم منتهى الشجاعة .

ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : { ولكن الله سلم } دون أن يقول : ولكنّه سلّم ، لقصد زيادة إسناد ذلك إلى الله ، وأنّه بعنايته ، واهتماماً بهذا الحادث .

وجملة : { إنه عليم بذات الصدور } تذييل للمنة ، أي : أوحى إلى رسوله بتلك الرؤيا الرمزية ، لعلمه بما في الصدور البشرية من تأثّر النفوس بالمشاهدات والمحسوسات أكثر ممّا تتأثّر بالاعتقادات ، فعَلِم أنّه لو أخبركم بأنّ المشركين ينهزمون ، واعتقدتم ذلك لصِدْق إيمانكم ، لم يكن ذلك الاعتقاد مثيراً في نفوسكم من الشجاعة والإقدام ما يثيره إعتقادي أنّ عددهم قليل ، لأنّ الاعتقاد بأنّهم ينهزمون لا ينافي توقّع شدّة تَنْزِل بالمسلمين ، من موت وجراح قبل الانتصار ، فأمّا اعتقاد قلّة العدوّ فإنّها تثير في النفوس إقداماً واطمئنان بال ، فلعلمه بذلك أراكهم الله في منامك قليلاً .

ومعنى { ذات الصدور } الأحوال المصاحبة لضمائر النفوس ، فالصدور أطلقت على ما حلّ فيها من النوايا والمضمرات ، فكلمة { ذَات } بمعنى صاحبة ، وهي مؤنث ( ذو ) أحدِ الأسماء الخمسة ، فأصل ألفها الواو ووزنها ( ذَوَت ) انقلبت واوها ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، قال في « الكشّاف » في تفسير سورة [ فاطر : 38 ] في قوله تعالى : { إنه عليم بذات الصدور } هي تأنيث ذُو ، وذُو موضوع لمعنى الصحبة من قوله :

لتَغْنِيَ عَنّي ذَا إنائِك أجمَعا

يعني أنّ ذات الصدور الحالةُ التي قرارتها الصدور فهي صاحبتها وساكنتُها ، فذات الصدور النوايا والخواطر وما يهمّ به المرء وما يدبّره ويكيده .