اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (43)

قوله :{ إذ يريكهم الله في منامك قليلا } .

النَّاصب ل " إذْ " يجوزُ أن يكون مضمراً ، أي : اذكُرْ ، ويجوزُ أن يكون " عليم " ، وفيه بعدٌ من حيث تقييدُ هذه الصفةِ بهذا الوقتِ ، ويجوزُ أن تكون " إذْ " هذه بدلاً من " إذْ " قبلها ، والإراءة هنا حُلُمية .

واختلف فيها النُّحاةُ : هل تتعدَّى في الأصل لواحدٍ كالبصريَّةِ ، أو لاثنين ، كالظَّنِّيَة ؟ .

فالجمهورْ على الأوَّلِ . فإذا دخلت همزةُ النَّقْلِ أكسبتْهَا ثانياً ، أو ثالثاً على حسب القولين فعلى الأوَّلِ تكون الكافُ مفعولاً أول ، و " هُمْ " مفعولٌ ثان ، و " قَلِيلاً " حال ، وعلى الثَّاني يكون " قَلِيلاً " نصباً على المفعول الثالث ، وهذا يَبْطُلُ بجواز حذف الثالث في هذا الباب اقتصاراً ، أي : من غير دليل تقول : أراني الله زيداً في مَنَامِي ، ورأيتك في النوم ، ولو كانت تتعدَّى لثلاثةٍ ، لما حُذفَ اقتصاراً ؛ لأنه خبر في الأصل .

فصل

المعنى : إذْ يريك اللَّهُ يا محمد المشركين في منامك ، أي : نَوْمك .

قال مجاهد : أرَى الله النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - كفار قريش في منامه قليلاً ، فأخبر بذلك أصحابه ، فقالوا : رُؤيَا النَّبي حق ، القومُ قليل ، فصار ذلك سبباً لقوَّةِ قلوبهم{[17381]} .

فإن قيل : رؤية الكثيرة قليلاً غلط ، فكيف يجوزُ من اللَّه تعالى أن يفعل ذلك ؟ .

فالجوابُ : أنَّ الله تعالى يفعلُ ما يشاءُ ، ويحكم ما يريدُ ، ولعلَّه تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون .

وقال الحسنُ : هذه الإراءة كانت في اليقظة ، قال : والمراد من المنامِ : العين ؛ لأنَّها موضع النَّوْمِ{[17382]} .

{ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم " ولتنَازَعْتُمْ " اختلفتم " فِي الأمْرِ " أي : في الإحجام والإقدام { ولكن الله سَلَّمَ } أي : سَلَّمكُم من المخالفة والفشل .

وقيل : سلَّمهم من الهزيمة يوم بدر .

{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .

قال ابنُ عبَّاسٍ : عليم بما في صدوركم من الحُبِّ لِلَّهِ تعالى{[17383]} وقيل : يعلم ما في صدوركم من الجراءة ، والجُبن والصَّبر والجزع .


[17381]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/258) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[17382]:ذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/252).
[17383]:انظر المصدر السابق وذكره الرازي (15/136).