قوله تعالى : { كما أرسلنا فيكم } . هذه الكاف للتشبيه ، ويحتاج إلى شيء يرجع إليه فقال بعضهم : يرجع إلى ما قبلها معناه ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا رسولاً منكم ، قال محمد بن جرير : دعا إبراهيم عليه السلام بدعوتين إحداهما قال : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) ، والثانية قوله : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) فبعث الله الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، ووعد إجابة الدعوة الثانية بأن يجعل من ذريته أمة مسلمة ، كما أجبت دعوته بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين وأتم نعمتي عليكم ببيان شرائع الملة الحنيفية وقال مجاهد وعطاء والكلبي : هي متعلقة بما بعدها وهو قوله : ( فاذكروني أذكركم ) معناه كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم فاذكروني . وهذه الآية خطاب لأهل مكة والعرب يعني كما أرسلنا فيكم يا معشر العرب .
قوله تعالى : { رسولاً منكم } . يعني محمداً صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { يتلو عليكم آياتنا } . يعني القرآن .
قوله تعالى : { ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة } . قيل : الحكمة السنة ، وقيل : مواعظ القرآن .
قوله تعالى : { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } . من الأحكام وشرائع الإسلام .
وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن نعمة تحويل القبلة أتبعه بالحديث عن نعمة جليلة أخرى وهي نعمة ارسال الرسول فيهم لهدايتهم فقال - تعالى -
{ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا . . . }
قوله - تعالى - : { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ } . . إلخ متصل بما قبله ، والكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف وما مصدرية ، والتقدير : لقد حولت القبلة إلى شطر المسجد الحرام لأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام نعمتي عليكم بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فيكم ، إجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل إذ قالا { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ . . . } وقيل إن قوله - تعالى - : { كَمَآ أَرْسَلْنَا } . . إلخ متصل بما بعده ، فتكون الكاف للمقابلة ، أي : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يعلمكم الدين القويم ، والخلق المستقيم ومنحتكم هذه النعمة فضلا مني وكرماً ، فاذكروني بالشكر عليها أذكركم برحمتي وثوابي . وقوله : { فِيكُمْ } متعلق " بأرسلنا " وقدم على المفعول تعجيلا بإدخال السرور : وقوله : { مِّنْكُمْ } في موضع نصب ، لأنه صفة لقوله : { رَسُولاً } والمخاطبون بهذه الآية الكريمة هم العرب .
وفي إرساله الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وهو منهم نعمة تستوجب المزيد من الشكر ، لأن إرساله منهم يسبقه معرفتهم لنشأته الطيبة وسيرته العطرة ، ومن شأن هذه المعرفة أن تحملهم على المسارعة إلى تصديقه والإِيمان به ، ولأن في إرساله فيهم وهو منهم شرف عظيم لهم ، ومجد لا يعد له مجد ، حيث جعل - سبحانه - خاتم رسله من هذه الأمة ، ولأن المشهور من حالهم الأنفة الشديدة من الانقياط ، فكون الرسول منهم ادعى إلى إيمانهم به وقبولهم لدعوته . وقوله : { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } صفة ثانية للرسول صلى الله عليه وسلم .
والتلاوة : ذكرالكلمة بعد الكلمة على نظام متسق ، وأصله من الإِتباع ومنه تلاه ، أي : تبعه . والمراد من الآيات : آيات القرآن الكريم ، وتلاوتها قراءتها ، فإن البصير بأسليب البيان العربي يدرك من مجرد تلاوة آيات القرآن كيف ارتفع إلى الذروة التي كان بها معجزة ساطعة .
وفي هذه الجملة - كما قال الآلوسي - " إشارة إلى طريق إثبات نبوته - عليه الصلاة والسلام - لأن تلاوة الأمي للآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الإِخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته "
وعبر بقوله : { يَتْلُواْ } لأن نزول القرآن مستمر ، وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم له متوالية ، وفي كل قراءة يحصل علم المعجزات للسامعين .
ويجوز أن يراد بالآيات : دلائل التوحيد والنبوة والبعث ، وبتلاوتها التذكير بها حتى يزداد المؤمنون إيماناً بصدقها .
وقوله : { وَيُزَكِّيكُمْ } صفة ثالثة للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي : ويطهركم من الشرك ، ومن الأخلاق الذميمة . وإذا أشرقت النفوس بنور الحق ، وتحلت بالأخلاق الحميدة ، قوبت على تلقى ما يرد عليها من الحقائق السامية .
وقوله : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } صفة رابعة للرسول صلى الله عليه وسلم .
والمراد بالكتاب : القرآن ، وتعليمه بيان ما يخفى من معانيه ، فهو غير التلاوة ، فلا تكرار بين قوله { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } وبين قوله { وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب } .
والحكمة : ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال التي جعل الله للناس فيها أسوة حسنة .
قال بعضهم : وقدمت جملة { وَيُزَكِّيكُمْ } هنا على جملة { وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة } عكس ما جاء في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ } لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين ، فقدم ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماماً بها ، وبعثاً لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلا للبشارة بها . أما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج ، مع ما في ذلك التخالف من التفنن " .
وقوله - تعالى - : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } صفة خامسة له صلى الله عليه وسلم .
أي : " ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي . ومما لم يكونوا يعملونه وعلمهم إياه صلى الله عليه وسلم وجوه واستنباط الأحكام من النصوص أو الأصول المستمدة منها ، وأخبار الأمم الماضية ، وقصص الأنبياء ، وغير ذلك مما لم تستقل بعلمه عقولهم . وبهذا النوع من التعليم صار الدين كاملا قبل انتهاء عهد النبوة .
ولقد كان العرب قبل الإِسلام في حالة شديدة من ظلام العقول وفساد العقائد . . . فلما أكرمهم الله - تعالى - برسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم الآيات ، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، خرج منهم رجال صاروا أمثالا عالية في العقيدة السليمة ، والأخلاق القويمة والأحكام العادلة ، والسياسة الرشيدة لمختلف البيئات والنزعات .
قال الآلوسي : وكان الظاهر أن يقول : " ويعلمكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون " بحذف الفعل " يعلمكم " من الجملة الآخيرة ، ليكون الكلام من عطف المفرد على المفرد ، إلا أنه - تعالى - كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما قبله أصلا ، فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلى الله عليه وسلم نعمة عظيمة ، ولولاه لكان الخلق متحيرين في أمر دينهم لا يدرون ماذا يصنعون " .
واستطرادا مع هذا الغرض نرى السياق يستطرد في تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم ، بإرسال هذا النبي منهم إليهم ، استجابة لدعوة أبيهم إبراهيم ، سادن المسجد الحرام قبلة المسلمين ؛ ويربطهم - سبحانه - به مباشرة في نهاية الحديث :
( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ، يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ، ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون . فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) . .
والذي يلفت النظر هنا ، أن الآية تعيد بالنص دعوة إبراهيم التي سبقت في السورة ، وهو يرفع القواعد من البيت هو وإسماعيل . دعوته أن يبعث الله في بنيه من جيرة البيت ، رسولا منهم ، يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . . ليذكر المسلمين أن بعثة هذا الرسول فيهم ، ووجودهم هم أنفسهم مسلمين ، هو الاستجابة المباشرة الكاملة لدعوة أبيهم إبراهيم . وفي هذا ما فيه من إيحاء عميق بأن أمرهم ليس مستحدثا إنما هو قديم ؛ وأن قبلتهم ليست طارئة إنما هي قبلة أبيهم إبراهيم ، وأن نعمة الله عليهم سابغة فهي نعمة الله التي وعدها خليله وعاهده عليها منذ ذلك التاريخ البعيد .
إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم ، وتمييزكم بشخصيتكم هي إحدى الآلاء المطردة فيكم ، سبقتها نعمة إرسال رسول منكم :
( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ) . .
فهو التكريم والفضل أن تكون الرسالة فيكم ، وأن يختار الرسول الأخير منكم ، وقد كانت يهود تستفتح به عليكم !
فما يتلو عليكم هو الحق . . والإيحاء الآخر هو الإشعار بعظمة التفضل في أن يخاطب الله العبيد بكلامه يتلوه عليهم رسوله . وهو تفضل يرتعش القلب إزاءه حين يتعمق حقيقته . فمن هم هؤلاء الناس ؟ من هم وما هم ؟ حتى يخاطبهم الله سبحانه بكلماته ، ويتحدث إليهم بقوله ، ويمنحهم هذه الرعاية الجليلة ؟ من هم وما هم لولا أن الله يتفضل ؟ ولولا أن فضل الله يفيض ؟ ولولا أنه - سبحانه - منذ البدء منحهم فضل النفخة من روحه ليكون فيهم ما يستأهل هذا الإنعام ، وما يستقبل هذا الإفضال ؟
ولولا الله ما زكي منهم من أحد ، ولا تطهر ولا ارتفع . ولكنه أرسل رسوله [ ص ]يطهرهم . يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية ، ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتطمره . ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة . والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها قديما وحديثا يرتكسون في مستنقع آسن وبيء من الشهوات والنزوات تزري بإنسانية الإنسان ، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة ، وهي أنظف كثيرا مما يهبط إليه الناس بدون الإيمان ! ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب . . وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر ، ويلطخ المجتمع والحياة . ويطهر حياتهم من الظلم والبغي . وينشر العدل النظيف الصريح ، الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في ظل الإسلام وحكم الإسلام ومنهج الإسلام . ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم ، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور . .
( ويعلمكم الكتاب والحكمة ) . .
وفيها شمول لما سبق من تلاوة الآيات وهي الكتاب ؛ وبيان للمادة الأصيلة فيه ، وهي الحكمة ، والحكمة ثمرة التعليم بهذا الكتاب ؛ وهي ملكة يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة ، ووزن الأمور بموازينها الصحيحة ، وإدراك غايات الأوامر والتوجيهات . . وكذلك تحققت هذه الثمرة ناضجة لمن رباهم رسول الله [ ص ] وزكاهم بآيات الله .
( ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) . .
وكان ذلك حقا في واقع الجماعة المسلمة ، فقد التقطها الإسلام من البيئة العربية لا تعلم إلا أشياء قليلة متناثرة ، تصلح لحياة القبيلة في الصحراء ، أو في تلك المدن الصغيرة المنعزلة في باطن الصحراء . فجعل منها أمة تقود البشرية قيادة حكيمة راشدة ، خبيرة بصيرة عالمة . . وكان هذا القرآن - مع توجيهات الرسول المستمدة كذلك من القرآن - هو مادة التوجيه والتعليم . وكان مسجد رسول الله [ ص ] الذي يتلى فيه القرآن والتوجيهات المستمدة من القرآن - هو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة : القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيرا من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل .
وما يزال هذا المنهج الذي خرج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان ، لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين ، ولو آمنت حقا بهذا القرآن ، ولو جعلته منهجا للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الأذان !
القول في تأويل قوله تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكّيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : ( كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً ) ، ولأتمّ نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية ، وأهديكم لدين خليلي إبراهيم عليه السلام ، وأجعل لكم دعوته التي دعاني بها ومسألته التي سألنيها فقال : ( رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ وأرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنَا إنّكَ أنْتَ التّوّابُ الرّحيمُ ) كما جعلت لكم دعوته التي دعاني بها ومسألته التي سألنيها ، فقال : رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ويُعَلّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ، فابتعثت منكم رسولي الذي سألني إبراهيم خليلي وابنه إسماعيل أن أبعثه من ذرّيتهما . ف«كما » إذ كان ذلك معنى الكلام صلة لقول الله عز وجل : وَلأُتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ولا يكون قوله : كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ متعلقا بقوله : فَاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ .
وقد قال قوم : إن معنى ذلك : فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم أذكركم . وزعموا أن ذلك من المقدّم الذي معناه التأخير ، فأغرقوا النزع ، وبعدوا من الإصابة ، وحملوا الكلام على غير معناه المعروف وسوى وجهه المفهوم . وذلك أن الجاري من الكلام على ألسن العرب المفهوم في خطابهم بينهم إذا قال بعضهم لبعض : «كما أحسنت إليك يا فلان فأحسن » أن لا يشترطوا للاَخر ، لأن الكاف في «كما » شرط معناه : افعل كما فعلت ، ففي مجيء جواب : اذْكُرُونِي بعده وهو قوله : أذْكُرْكُمْ أوضح دليل على أن قوله : كَمَا أرْسَلْنَا من صلة الفعل الذي قبله ، وأن قوله : اذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ خبر مبتدأ منقطع عن الأول ، وأنه من سبب قوله : كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ بمعزل .
وقد زعم بعض النحويين أن قوله : فَاذْكُرُونِي إذا جعل قوله : كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ جوابا له مع قوله : أذْكُرْكُمْ نظير الجزاء الذي يجاب بجوابين ، كقول القائل : إذا أتاك فلان فأته ترضه ، فيصير قوله «فأته » و «ترضه » جوابين لقوله : إذا أتاك ، وكقوله : إن تأتني أحسن إليك أكرمك . وهذا القول وإن كان مذهبا من المذاهب ، فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب . والذي هو أولى بكتاب الله عزّ وجل أن يوجه إليه من اللغات الأفصح الأعرف من كلام العرب دون الأنكر الأجهل من منطقها هذا مع بعد وجهه من المفهوم في التأويل .
ذكر من قال : إن قوله : كَمَا أرْسَلْنَا جواب قوله : فاذْكُرُونِي .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله عز وجل : كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ كما فعلت فاذكروني .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قوله : كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ فإنه يعني بذلك العرب ، قال لهم جل ثناؤه : الزموا أيها العرب طاعتي ، وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجه إليها ، لتنقطع حجة اليهود عنكم ، فلا تكون لهم عليكم حجة ، ولأتمّ نعمتي عليكم وتهتدوا ، كما ابتدأتكم بنعمتي فأرسلت فيكم رسولاً إليكم منكم ، وذلك الرسول الذي أرسله إليهم منهم محمد صلى الله عليه وسلم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا فإنه يعني آيات القرآن ، وبقوله : وَيُزَكّيكُمْ ويطهركم من دنس الذنوب ، وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وهو الفرقان ، يعني أنه يعلمهم أحكامه ، ويعني بالحكمة : السنن والفقه في الدين . وقد بينا جميع ذلك فيما مضى قبل بشواهده .
وأما قوله : وَيُعَلّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فإنه يعني : ويعلمكم من أخبار الأنبياء ، وقصص الأمم الخالية ، والخبر عما هو حادث وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها ، فعلموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخبرهم جل ثناؤه أن ذلك كله إنما يدركونه برسوله صلى الله عليه وسلم .
{ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم } متصل بما قبله ، أي ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة ، أو في الآخرة كما أتممتها بإرسال رسول منكم ، أو بما بعده كما ذكرتكم بالإرسال فاذكروني . { يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم } يحملكم على ما تصيرون به أزكياء ، قدمه باعتبار القصد وأخره في دعوة إبراهيم عليه السلام باعتبار الفعل { ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } بالفكر والنظر ، إذ لا طريق إلى معرفته سوى الوحي ، وكرر الفعل ليدل على أنه جنس آخر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً": ولأتمّ نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية، وأهديكم لدين خليلي إبراهيم عليه السلام، وأجعل لكم دعوته التي دعاني بها ومسألته التي سألنيها فقال: "رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ وأرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنَا إنّكَ أنْتَ التّوّابُ الرّحيمُ "كما جعلت لكم دعوته التي دعاني بها ومسألته التي سألنيها، فقال: "رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ويُعَلّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم"، فابتعثت منكم رسولي الذي سألني إبراهيم خليلي وابنه إسماعيل أن أبعثه من ذرّيتهما. ف«كما» إذ كان ذلك معنى الكلام صلة لقول الله عز وجل: "وَلأُتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ""كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ": فإنه يعني بذلك العرب، قال لهم جل ثناؤه: الزموا أيها العرب طاعتي، وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجه إليها، لتنقطع حجة اليهود عنكم، فلا تكون لهم عليكم حجة، ولأتمّ نعمتي عليكم وتهتدوا، كما ابتدأتكم بنعمتي فأرسلت فيكم رسولاً إليكم منكم، وذلك الرسول الذي أرسله إليهم منهم محمد صلى الله عليه وسلم...
"يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا": فإنه يعني آيات القرآن. "وَيُزَكّيكُمْ": ويطهركم من دنس الذنوب، "وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ": وهو الفرقان، يعني أنه يعلمهم أحكامه. ويعني بالحكمة: السنن والفقه في الدين.
"وَيُعَلّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ": ويعلمكم من أخبار الأنبياء، وقصص الأمم الخالية، والخبر عما هو حادث وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها، فعلموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرهم جل ثناؤه أن ذلك كله إنما يدركونه برسوله صلى الله عليه وسلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كما أرسل إليكم رسولا، وأنعم عليكم بمعرفة وحدانيته وبمعرفة محاجة الكفرة عليكم بإكرامه إياكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، كذلك يجب عليكم أن تذكروه، وتشكروا له.
{ويزكيكم} قال ابن عباس رضي الله عنه: يأخذ زكاة أموالكم، ففيه زكاتكم.
{والحكمة}:... وقيل: الحكمة: السنة، وقيل: الحكمة: الوعظ، وقيل: الحكمة هي الإصابة، ومنه سمي الحكيم حكيما لأنه مصيب.
وقال الحسن: الكتاب والحكمة واحد، وهو على التكرار كقوله: (تلك آيات القرآن وكتاب مبين) [النمل: 1]، وهما واحدا.
{ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} من التوحيد والشرائع والمحاجة، وما أكرمهم بمحمد وما أنعم عليهم من أنواع النعم.
وقوله: {رسولا منكم} خاطب العرب، وذكرهم بما أنعم عليهم من بعث الرسول فيهم ومنهم، وإنزال الكتاب بلسانهم، وهم كانوا يتمنون ذلك كقوله:
{أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} [الأنعام: 157] فمن عليهم بذلك، وبه استوجبوا الفضيلة على غيرهم، [وكفى به] فضلا، وقوله:
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير} [الآية] [فاطر: 42].
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَيُزَكِّيكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما... أن يأمركم بما تصيرون به عند الله أزكياء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهذه الآية خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو المعنيّ بقوله {رسولاً منكم}
أما قوله: {ويزكيكم} ففيه أقوال...
(وثالثها): أن التزكية عبارة عن التنمية، كأنه قال يكثركم، كما قال: {إذ كنتم قليلا فكثركم} وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا، عن أبي مسلم، قال القاضي: وهذه الوجوه غير متنافية فلعله تعالى يفعل بالمطيع كل ذلك.
أما قوله تعالى: {ويعلمكم الكتاب} فليس بتكرار لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم.
وأما {الحكمة} فهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه {الحكمة} هي سنة الرسول عليه السلام.
أما قوله: {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} فهذا تنبيه على أنه تعالى أرسله على حين فترة من الرسل وجهالة من الأمم، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم فبعث الله تعالى محمدا بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم وذلك من أعظم أنواع النعم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
في هذه الآية قدم التزكية على التعليم، وفي دعاء إبراهيم قدم التعليم على التزكية، وذلك لاختلاف المراد بالتزكية. فالظاهر أن المراد هنا هو التطهير من الكفر، كما شرحناه، وهناك هو الشهادة بأنهم خيار أزكياء، وذلك متأخر عن تعليم الشرائع والعمل بها.
قوله تعالى: {مِّنكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا..}:... فيه التنبيه على حكمة إرساله منهم وهو تبرئته صلى الله عليه وسلم عن أن يكون ساحرا أو مجنونا، فيقال إليهم: لم نرسل إليكم أحدا تجهلونه بل أرسلنا واحدا منكم نشأ بين أظهركم وعرفتم براءته من كل (آفة تنسب) إليه.
قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}... منهم من قال: إنّ العلم قسمان: علم يكون (الإنسان) بحيث لو (شحذ) (قريحته) وفكر فيه لأدركه من تلقاء نفسه بعقله (وفطرته)، وعلم لا يمكن للإنسان التوصل إليه من ذاته ولا يقبل أن يتعلمه وحده بعقله بوجه. وهذا هو المراد بقوله {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} أي ما لم تكونوا قابلين لمعرفته بعقولكم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان السياق لفعل من الأفعال وهو التوجه إلى البيت للصلاة وكانت الصلاة أعظم مطهر للقلوب من أوضار الأدناس قدم قوله: {ويزكيكم} أي يطهركم في أقوالكم وأفعالكم وينميكم بإنعاش قلوبكم لتشرف بالمعاني الصالحة والأخلاق الطاهرة الموجبة للفوز الدائم والنجاة عما دنس اليهود وأوجب لهم الضلال من مرض القلب بإنكار النسخ وكتم الحق وإفشاء الباطل المثمر مع الضلال للإضلال...
{ويعلمكم الكتاب} المقيم للدين والدنيا. قال الحرالي: أي الفقه فيه {والحكمة} دقائق الإشارات الشافية لأمراض القلوب المانعة من اتباع الهوى. قال الحرالي: فخص تعليم الحكمة من عموم تعليم الكتاب، لأن التوسل بالأحكام جهد عمل والتوسل بعلم الحكمة يسر منال عقل، لأن الحكمة منال الأمر الذي فيه عسر بسبب فيه يسر فينال الحكيم بحكمته لاطلاعه على إفضاء مجعول الأسباب بعضها لبعض مما بين أسباب عاجل الدنيا ومسببات آجل الآخرة ما لا يصل إليه جهد العامل الكادح. وفي تكملة الكتاب والحكمة بكلمة "أل "إنهاء إلى الغاية الجامعة لكل كتاب وحكمة بما يعلمه الأولون والآخرون...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
تنبيه: قدم هنا يزكيكم على يعلمكم باعتبار القصة وأخر في دعوة إبراهيم يزكيكم على يعلمكم باعتبار الفعل
{ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} أي: بالتفكر والنظر إذ لا طريق لمعرفته سوى الوحي...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وفيه إشارة إلى طريق إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام لأن تلاوة الأمي الآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الإخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته...
{وَيُعَلّمُكُمُ الكتاب والحكمة} صفة إثر صفة وأخرت لأن تعليم الكتاب وتفهيم ما انطوى عليه من الحكمة الإلهية والأسرار الربانية إنما يكون بعد التخلي عن دنس الشرك ونجس الشك بالاتباع، وأما قبل ذلك فالكفر حجاب.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَبَ} أي القرآن، ذكره أولا بلفظ الآيات باعتبار معانيه التي هي مدلولها، وثانياً بالكتاب باعتبار ألفاظه...
ولم يقل ويعلمكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون بلا إعادة ذكر يعلمكم ليدل على أن هذا التعليم نوع آخر، ولو قلنا ما لم تكونوا تعلمون هو الكتاب والحكمة وعطف، لأن تغاير الصفة كتغاير الذات، فإن مفهوم ما لم تكونوا تعلمون غير مفهوم الكتاب والحكمة، ولو اتحدت ما صدقاً،
وقدم التزكية لأنها تخلية عن التعليم لأنه تحلية، ولأنها غاية التعليم متقدمة فى القصد، كما قالوا في الغاية المقصودة من الفعل هي أول الفكر وآخر العمل، كالماء غاية يقصد بالحفر ويحصل بعده وقد قصد قبل الحفر، وقدم التعليم فى دعاء إبراهيم: ربنا وابعث فيهم... الخ باعتبار أن التزكية تحصل بعد العلم، وهو بعد التعليم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يتلو عليكم آياتنا} الدالة على أن ما جاء به من التوحيد والهداية هو الحق من عند الله، وهذه الآيات أعم من أن تكون آيات القرآن أو غيرها من الدلائل والبراهين على أصول الدين، وقد تقدم تفسير الآيات في دعوة إبراهيم بأن الآيات يصح أن يراد بها الآيات الكونية والعقلية وأن يراد بها آيات الوحي، والتعميم أولى، وإنما خصها بعض المفسرين بآيات القرآن بقرينة {يتلو} على أن التلاوة أعم، فكل برهان يقيمه فقد تلا عليهم عبارته، وذكر لهم فيه آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، ووجه المنة أنه يقودها إلى الحق بالدليل والبرهان، دون التقليد والتسليم بغير فهم ولا إذعان، والطريقة الأولى يكون بها العقل مستقلا، والدين مؤيدا له وهاديا، لا مرغما ولا معطلا.
[و] الآيات تتعلق بإثبات العقائد وأصول الدين وهي المقصد الأول، ويليها تهذيب الأخلاق ولذلك قال: {ويزكيكم} أي يطهر نفوسكم من الأخلاق السافلة، والرذائل الممقوتة، ويخلقها بالأخلاق الحميدة بما لكم فيه من حسن الأسوة، لا بالقهر والسطوة،
وبعد ذكر التربية العملية بالأسوة الحسنة ذكر أمر التعليم فقال: {ويعلمكم الكتاب والحكمة} أي الكتاب الإلهي أو الكتابة التي تخرجون بها من ظلمة الأمية والجهل إلى نور العلم والحضارة. ويجوز الجمع بين المعنيين على القول الصحيح باستعمال المشترك في معنييه أو فيما يقتضيه المقام من معانيه...
وأما الحكمة فهي العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها الباعث على العمل. وفسرها بعضهم بالسنة... فحكمة القرآن أعلى الحكم، وتليها حكمة الرسول صلى الله عيه وسلم، وقال صلى الله عيه وسلم (لا حسد إلا في اثنين: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) رواه الشيخان من حديث ابن مسعود، وفي بعض رواياته {فهو يعمل بها ويعلمها الناس} وفي لفظ من حديث ابن عمر "القرآن "بدل الحكمة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والذي يلفت النظر هنا، أن الآية تعيد بالنص دعوة إبراهيم التي سبقت في السورة، وهو يرفع القواعد من البيت هو وإسماعيل. دعوته أن يبعث الله في بنيه من جيرة البيت، رسولا منهم، يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. ليذكر المسلمين أن بعثة هذا الرسول فيهم، ووجودهم هم أنفسهم مسلمين، هو الاستجابة المباشرة الكاملة لدعوة أبيهم إبراهيم. وفي هذا ما فيه من إيحاء عميق بأن أمرهم ليس مستحدثا إنما هو قديم؛ وأن قبلتهم ليست طارئة إنما هي قبلة أبيهم إبراهيم، وأن نعمة الله عليهم سابغة فهي نعمة الله التي وعدها خليله وعاهده عليها منذ ذلك التاريخ البعيد.
إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم، وتمييزكم بشخصيتكم هي إحدى الآلاء المطردة فيكم، سبقتها نعمة إرسال رسول منكم:
(كما أرسلنا فيكم رسولا منكم)..
فهو التكريم والفضل أن تكون الرسالة فيكم، وأن يختار الرسول الأخير منكم، وقد كانت يهود تستفتح به عليكم!
فما يتلو عليكم هو الحق.. والإيحاء الآخر هو الإشعار بعظمة التفضل في أن يخاطب الله العبيد بكلامه يتلوه عليهم رسوله. وهو تفضل يرتعش القلب إزاءه حين يتعمق حقيقته. فمن هم هؤلاء الناس؟ من هم وما هم؟ حتى يخاطبهم الله سبحانه بكلماته، ويتحدث إليهم بقوله، ويمنحهم هذه الرعاية الجليلة؟ من هم وما هم لولا أن الله يتفضل؟ ولولا أن فضل الله يفيض؟ ولولا أنه -سبحانه- منذ البدء منحهم فضل النفخة من روحه ليكون فيهم ما يستأهل هذا الإنعام، وما يستقبل هذا الإفضال؟
ولولا الله ما زكي منهم من أحد، ولا تطهر ولا ارتفع. ولكنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلميطهرهم. يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية، ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتطمره. ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة. والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها قديما وحديثا يرتكسون في مستنقع آسن وبيء من الشهوات والنزوات تزري بإنسانية الإنسان، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة، وهي أنظف كثيرا مما يهبط إليه الناس بدون الإيمان! ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب.. وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر، ويلطخ المجتمع والحياة. ويطهر حياتهم من الظلم والبغي. وينشر العدل النظيف الصريح، الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في ظل الإسلام وحكم الإسلام ومنهج الإسلام. ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور..
وفيها شمول لما سبق من تلاوة الآيات وهي الكتاب؛ وبيان للمادة الأصيلة فيه، وهي الحكمة، والحكمة ثمرة التعليم بهذا الكتاب؛ وهي ملكة يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، ووزن الأمور بموازينها الصحيحة، وإدراك غايات الأوامر والتوجيهات.. وكذلك تحققت هذه الثمرة ناضجة لمن رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزكاهم بآيات الله.
(ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)..
وكان ذلك حقا في واقع الجماعة المسلمة، فقد التقطها الإسلام من البيئة العربية لا تعلم إلا أشياء قليلة متناثرة، تصلح لحياة القبيلة في الصحراء، أو في تلك المدن الصغيرة المنعزلة في باطن الصحراء. فجعل منها أمة تقود البشرية قيادة حكيمة راشدة، خبيرة بصيرة عالمة.. وكان هذا القرآن -مع توجيهات الرسول المستمدة كذلك من القرآن- هو مادة التوجيه والتعليم. وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتلى فيه القرآن والتوجيهات المستمدة من القرآن -هو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة: القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيرا من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل.
وما يزال هذا المنهج الذي خرج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان، لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين، ولو آمنت حقا بهذا القرآن، ولو جعلته منهجا للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الآذان!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد امتن الله على عموم المؤمنين من العرب وغيرهم بقوله: {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} [آل عمران: 164] أي جنسهم الإنساني لأن ذلك آنس لهم مما لو كان رسولهم من الملائكة قال تعالى: ولذلك علق بفعل {أرسلنا} حرفُ فِي ولم يعلَّق به حرف إلى كما في قوله: {إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم} [المزمل: 15]، لأن ذلك مقام احتجاج وهذا مقام امتنان فناسب أن يذكر ما به تمام المنة وهي أن جعل رسولهم فيهم ومنهم، أي هو موجود في قومهم وهو عربي مثلهم...
{يتلوا عليكم آياتنا} أي يقرأ عليكم القرآن وسماه أولاً آيات باعتبار كون كل كلام منه معجزة، وسماه ثانياً كتاباً باعتبار كونه كتاب شريعة...
وقدمت جملة: {ويزكيكم} على جملة: {ويعلمكم الكتاب والحكمة} هنا عكس ما في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم: {يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} [البقرة: 129]، لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين فقدم فيها ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماماً بها وبعثاً لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلاً للبشارة بها. فأما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج، مع ما في ذلك التخالف من التفنن...
{ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} تعميم لكل ما كان غير شريعة ولا حكمة من معرفة أحوال الأمم وأحوال سياسة الدول وأحوال الآخرة وغير ذلك. وإنما أعاد قوله:
{ويعلمكم} مع صحة الاستغناء عنه بالعطف تنصيصاً على المغايرة لئلا يظن أن: {ما لم تكونوا تعلمون} هو الكتاب والحكمة، وتنصيصاً على أن: {ما لم تكونوا} مفعولاً لا مبتدأ حتى لا يترقب السامع خبراً له فيضل فهمه في ذلك الترقب...