الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ} (151)

قوله تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَا } : في الكافِ قولان ، أظهرُهما : أنَّها للتشبيه . والثاني : أنها للتعليل ، فعلى القولِ الأولِ تكونُ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ . واختَلَفَ الناسُ في متعلَّقِها حينئذٍ على خمسةِ أوجهٍ ، أحدُها : أنها متعلقةٌ بقوله : " ولأتِمَّ " تقديرُه : ولأتَّم نعمتي عليكم إتماماً مثلَ إتمامِ الرسولِ فيكم ، ومتعلَّقُ الإِتمامَيْنِ مختلفٌ ، فالأولُ بالثوابِ في الآخرةِ والثاني بإرسالِ الرسولِ في الدنيا ، أو الأولُ بإيجابِ الدعوةِ الأولى لإِبراهيم في قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 138 ] والثاني بإجابةِ الدعوةِ الثانية في قوله : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 12 ] ، [ ورجَّحه مكي لأنَّ سياقَ اللفظِ يَدُلُّ على أنَّ المعنى ] : ولأتمَّ نعمتي ببيان مِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ كما أَجَبْنا دعوتَه فيكم فَأَرْسلنا إليكم رسولاً منكم . الثاني أَنها متعلقةٌ بيهتدون ، تقديرُه : يَهْتدون اهتداءً مثلَ إرسالِنا فيكم رسولاً ، ويكون تشبيهُ الهدايةِ بالإِرسال في التحقيق والثبوتِ ، أي : اهتداءً متحققاً كتحققِ إرسالنا . الثالث : - وهو قول أبي مسلم - أنها متعلقةٌ بقولِه : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] ، أي : جَعْلاً مثلَ إرسالِنا . وهذا بعيدٌ جداً لطولِ الفصلِ المؤذنِ بالانقطاعِ . الرابع : أنها متعلقةٌ بما بعدها وهو " اذكروني " ، قال الزمخشري : " كما ذَكَرْتُكُم بإرسالِ الرسلِ فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب ، فيكونُ على تقديرِ مصدرٍ محذوفٍ ، وعلى تقديرِ مضافٍ أي : اذكروني ذكراً مثل ذِكْرِنا لكم بالإِرسال ، ثم صار : مثلَ ذكرِ إرسالِنا ، ثم حُذِفَ المضافُ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وهذا كما تقول : كما أتاك فلان فإنه يكرمك ، والفاءُ غيرُ مانعةٍ من ذلك " قال أبو البقاء : " كما لم تَمْنَعْ في باب الشرط " يعني أنَّ ما بعدَ فاءِ الجزاءِ يَعْمَلُ فيما قبلها . [ وقد رَدَّ مكي هذا بأنَّ الأمرَ إذا كان له جوابٌ لم يتعلَّق بهِ ما قبله ] لاشتغالِه بجوابِه و " اذكروني " قد أُجيب بقولِه : " أذكرْكم " فلا يتعلَّقُ به ما قبلَه ، قال " ولا يجوزُ ذلك إلا على التشبيه بالشرطِ الذي يُجاب بجوابين نحو : إذا أتاك فلانٌ فأكرمه تَرْضَهْ ، فيكونُ " كما " و " فأذكركم " جوابين للأمرِ ، والأول أفصحُ وأشهرُ ، وتقول : " كما أحسنت إليك فأكرمني " فيَصِحُّ أن تجعلَ الكافَ متعلقةً بأكرمني إذ لا جواب له " .

وهذا الذي منعه مكي قال الشيخ : " لا نعلم خلافاً في جوازِه " وأمَّا قولُه : " إلا أن يُشَبَّه بالشرطِ " وجعلُه " كما " جواباً للأمر فليس بتشبِيهٍ صحيحٍ ولا يُتَعَقَّلُ ، وللاحتجاجِ عليه موضعٌ غيرُ هذا الكتاب . قال الشيخ : وإنما يَخْدِشُ هذا عندي وجودُ الفاء فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتَبْعُدُ زيادتُها " . انتهى وقد تقدَّم ما نقلته عن أبي البقاء في أنها غيرُ مانعةٍ من ذلك .

الخامس : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من " نعمتي " والتقديرُ : ولأُتِمَّ نعمتي مُشْبِهَةً إرسالنَا فيكم رسولاً ، أي : مشبهةً نعمةَ الإِرسالِ ، فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ .

وأمَّا على القولِ بأنَّها للتعليلِ فتتعلَّقُ بما بعدَها ، وهو قولُه : " فاذكروني " أي : اذكروني لأجلِ إرسالِنا فيكم رسولاً ، وكونُ الكافِ للتعليل واضحٌ ، وجَعَلَ بعضُهم منه : { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] ، وقولَ الآخر :

لا تَشْتُمِ الناسَ كما لا تُشْتَمُ *** . . . . . . . . . . . . . . . .

أي : لا تشتم لامتناعِ الناسِ مِنْ شَتْمِكَ .

وفي " ما " المتصلةِ بهذه الكافِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنها مصدريةٌ وقد تقدَّم تحريرُه . والثاني : أنها بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، و " رسولاً " بدلٌ منه ، والتقديرُ : كالذي أرسلناه رسولا ، وهذا بعيدٌ جداً ، وأيضاً فإنَّ فيه وقوعَ " ما " على آحادِ العقلاءِ وهو قولٌ مرجوحٌ الثالث : أنها كافةٌ للكافِ كهي في قولِه :

لَعَمْرُكَ إنني وأبا حُمَيْدٍ *** كما النَّشْوانُ والرجلُ الحليمُ

ولا حاجةَ إلى هذا ، فإنه لا يُصَار إلى ذلك إلاَّ حيث تعذَّرَ أَنْ ينسبكَ منها ومِمَّا بعدها مصدرٌ ، كما إذا اتصلت بجملةٍ اسميةٍ كالبيتِ المتقدِّم . و " منكم " في محلِّ نصبٍ لأنه صفةٌ ل " رسولاً " وكذلك ما بعدَه من الجمل ، ويُحْتمل أن تكونَ الجملُ بعده حالاً لتخصص النكرةِ بوَصْفِها بقوله : " منكم " ، وأتى بهذه الصفاتِ بصيغةِ المضارع لأنه يَدُلُّ على/ التجدُّدِ والحدوثِ ، وهو مقصودُ ها هنا بخلاف كونِه منهم فإنَّه وصفٌ ثابتٌ له ، وهنا قَدَّم التزكيةَ على التعليمِ ، وفي دعاء إبراهيم بالعكسِ ، والفرقُ أنَّ المرادَ بالتزكيةِ هنا التطهيرُ من الكفرِ وكذلك فَسَّروه ، وهناك المرادُ بها الشهادةُ بأنَّهم خيارٌ أزكياءُ وذلك متأخِّر عن تعلُّمِ الشرائعِ والعَمَلِ بها ، وقوله : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } بعد قوله : { وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } مِنْ بابِ ذكرِ العامِّ بعد الخاصِّ وهو قليلٌ بخلافِ عكسِه .