مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ} (151)

قوله تعالى : { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } .

اعلم أنا قد بينا أن الله تعالى استدل على صحة دين محمد عليه الصلاة والسلام بوجوه : بعضها إلزامية ، وهو أن هذا الدين دين إبراهيم فوجب قبوله ، وهو المراد بقوله : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } وبعضها برهانية وهو قوله : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } ثم إنه سبحانه وتعالى عقب هذا الاستدلال بحكاية شبهتين لهم ( إحداهما ) : قوله : { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا } ( والثانية ) : استدلالهم بإنكار النسخ على القدح في هذه الشريعة ، وهو قول : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } وأطنب الله تعالى في الجواب عن الشبهة وبالحق فعل ذلك ، لأن أعظم الشبهة لليهود في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام إنكار النسخ ، فلا جرم أطنب الله تعالى في الجواب عن هذه الشبهة ، وختم ذلك الجواب بقوله : { ولأتم نعمتي عليكم } فصار هذا الكلام مع ما فيه من الجواب عن الشبهة تنبيها على عظيم نعم الله تعالى ، ولا شك أن ذلك أشد استمالة لحصول العز والشرف في الدنيا ، والتخلص في الذل والمهانة يكون مرغوبا فيه ، وعند اجتماع الأمرين فقد بلغ النهاية في هذا الباب .

أما قوله : { كما أرسلنا } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : هذا الكاف إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده ، فإن قلنا : إنه متعلق بما قبله ففيه وجوه . ( الأول ) : أنه راجع إلى قوله : { ولأتم نعمتي عليكم } أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف ، وفي الآخرة بالفوز بالثواب ، كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول . ( الثاني ) : أن إبراهيم عليه السلام قال : { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويزكيهم } وقال أيضا : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا } فكأنه تعالى قال : ولأتم نعمتي عليكم ببيان الشرائع ، وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم ، كما أرسلنا فيكم رسولا إجابة لدعوته عن ابن جرير . ( الثالث ) : قول أبي مسلم الأصفهاني ، وهو أن التقدير : وكذلك جعلناكم أمة وسطا كما أرسلنا فيكم رسولا ، أي كما أرسلنا فيكم رسولا من شأنه وصفته كذا وكذا ، فكذلك جعلناكم أمة وسطا ، وأما إن قلنا : أنه متعلق بما بعده ، فالتقدير : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يعلمكم الدين والشرع ، فاذكروني أذكركم وهو اختيار الأصم وتقريره إنكم كنتم على صورة لا تتلون كتابا ، ولا تعلمون رسولا ، ومحمد صلى الله عليه وسلم رجل منكم ليس بصاحب كتاب ، ثم أتاكم بأعجب الآيات يتلوه عليكم بلسانكم وفيه ما في كتب الأنبياء ، وفيه الخبر عن أحوالهم ، وفيه التنبيه على دلائل التوحيد والمعاد وفيه التنبيه على الأخلاق الشريفة ، والنهي عن أخلاق السفهاء ، وفي ذلك أعظم البرهان على صدقه فقال : كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلا ، فاذكروني بالشكر عليها ، أذكركم برحمتي وثوابي ، والذي يؤكده قوله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم } فلما ذكرهم هذه النعمة والمنة ، أمرهم في مقابلتها بالذكر والشكر فإن قيل : { كما } هل يجوز أن يكون جوابا ؟ قلنا : جوزه الفراء وجعل لأذكروني جوابين . ( أحدهما ) : { كما } . والثاني : { أذكركم } ووجه ذلك لأنه أوجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته ، ولما سلف من نعمته ، قال القاضي : والوجه الأول أولى لأنه قبل الكلام إذا وجد ما يتم به الكلام من غير فصل فتعلقه به أولى .

المسألة الثانية : في وجه التشبيه قولان : إن قلنا لكاف متعلق بقوله ولأتم نعمتي كان المعنى أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة لأنه تعالى يفعل الأصلح ، وإن قلنا إنه متعلق بقوله تعالى : { اذكروني } دل ذلك على أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بالرسالة .

المسألة الثالثة : { ما } في قوله : { كما أرسلنا } مصدرية كأنه قيل : كإرسالنا فيكم ، ويحتمل أن تكون كافة .

أما قوله تعالى : { فيكم } فالمراد به العرب وكذلك قوله : { منكم } وفي إرساله فيهم ومنهم ، نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه الشرف ، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب .

أما قوله تعالى : { يتلو عليكم آياتنا } فاعلم أنه من أعظم النعم لأنه معجزة باقية ، ولأنه يتلى فيتأدى به العبادات ؛ ولأنه يتلى فيستفاد منه جميع العلوم ، ولأنه يتلى فيستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة ، فكأنه يحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة .

أما قوله : { ويزكيكم } ففيه أقوال . ( أحدها ) : أنه عليه الصلاة والسلام يعلمهم ما إذا تمسكوا به صاروا أزكياء عن الحسن . ( وثانيها ) : يزكيهم بالثناء والمدح ، أي يعلم ما أنتم عليه من محاسن الأخلاق فيصفكم به ، كما يقال : إن المزكي زكي الشاهد ، أي وصفه بالزكاء . ( وثالثها ) : أن التزكية عبارة عن التنمية ، كأنه قال يكثركم ، كما قال : { إذ كنتم قليلا فكثركم } وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا ، عن أبي مسلم ، قال القاضي : وهذه الوجوه غير متنافية فلعله تعالى يفعل بالمطيع كل ذلك .

أما قوله تعالى : { ويعلمكم الكتاب } فليس بتكرار لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم ، وأما { الحكمة } فهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها ، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه { الحكمة } هي سنة الرسول عليه السلام .

أما قوله : { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } فهذا تنبيه على أنه تعالى أرسله على حين فترة من الرسل وجهالة من الأمم ، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم فبعث الله تعالى محمدا بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم وذلك من أعظم أنواع النعم .