البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ} (151)

{ رسولاً منكم يدعو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة } : فيه اعتناء بالعرب ، إذ كان الإرسال فيهم ، والرسول منهم ، وإن كانت رسالته عامة .

وكذلك جاء { هو الذي بعث في الأمّيين } ويشعر هذا الامتنان بإنه لم يسبق أن يرسل ولا يبعث في العرب رسول غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك أفرده فقال : { رسولاً منهم } ووصفه بأوصاف كلها معجز لهم ، وهي كونه منهم ، وتالياً عليهم آيات الله ، ومزكياً لهم ، ومعلماً لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون .

وقدم كونه منهم ، أي يعرفونه شخصاً ونسباً ومولداً ومنشأً ، لأن معرفة ذات الشخص متقدمة على معرفة ما يصدر من أفعاله .

وأتى ثانياً بصفة تلاوة الآيات إليه تعالى ، لأنها هي المعجزة الدالة على صدقه ، الباقية إلى الأبد .

وأضاف الآيات إليه تعالى ، لأنها كلامه سبحانه وتعالى ، ومن تلاوته تستفاد العبادات ومجامع الأخلاق الشريفة ، وتنبع العلوم .

وأتى ثالثاً بصفة التزكية ، وهي التطهير من أنجاس الضلال ، لأن ذلك ناشىء عن إظهار المعجز لمن أراد الله تعالى توفيقه وقبوله للحق .

وأتى رابعاً بصفة تعليم الكتاب والحكمة ، لأن ذلك ناشىء عن تطهير الإنسان ، باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، فيعلمه إذ ذاك ويفهمه ما انطوى عليه كتاب الله تعالى ، وما اقتضته الحكمة الإلهية .

وأتى بهذه الصفات فعلاً مضارعاً ليدل بذلك على التجدد ، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائماً .

وأما الصفة الأولى ، وهي كونه منهم ، فليست بمتجددة ، بل هو وصف ثابت له .

وقد تقدم الكلام على هذه الأوصاف في قوله : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } بأشبع من هذا ، فلينظر هناك .

وختم هذا بقوله : { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } ، وهو ذكر عام بعد خاص ، لأنهم لم يكونوا يعلمون الكتاب ولا الحكمة .

وفسر بعضهم ذلك بأن الذي لم يكونوا يعلمون : قصص من سلف ، وقصص ما يأتي من الغيوب .

وفي هذه الآية قدم التزكية على التعليم ، وفي دعاء إبراهيم قدم التعليم على التزكية ، وذلك لاختلاف المراد بالتزكية .

فالظاهر أن المراد هنا هو التطهير من الكفر ، كما شرحناه ، وهناك هو الشهادة بأنهم خيار أزكياء ، وذلك متأخر عن تعليم الشرائع والعمل بها .

/خ157