إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{كَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِيكُمۡ رَسُولٗا مِّنكُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمۡ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُواْ تَعۡلَمُونَ} (151)

{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً منْكُمْ } متصلٌ بما قبله ، والظرفُ الأول متعلقٌ بالفعل قُدِّم على مفعوله الصريحِ لما في صفاته من الطول ، والظرفُ الثاني متعلق بمُضمرٍ وقع صفةً لرسولاً مبينةً لتمام النعمةِ ، أي ولأتمَّ نعمتي عليكم في أمر القِبلة أو في الآخرة إتماماً كائناً كإتمامي لها بإرسال رسولٍ كائنٍ منكم ، فإن إرسالَ الرسول لاسيما المجانسُ لهم نعمةٌ لا يكافئُها نعمة قطُّ ، وقيل : متصلٌ بما بعده أي كما ذُكِّرْتم بالإرسال فاذكروني الخ وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير بعد التوجيه فيما قبله افتنانٌ وجَرَيانٌ على سَنن الكبرياء { يَتْلُو عَلَيْكُمْ آياتنا } صفة ثانيةٌ لرسول كاشفةٌ لكمال النعمة { وَيُزَكِيكُمْ } عطفٌ على يتلو أي يحمِلُكم على ما تصيرون به أزكياءَ { وَيُعَلّمُكُمُ الكتاب والحكمة } صفةٌ أخرى مترتبةٌ في الوجود على التلاوة وإنما وسَّطَ بينهما التزكية التي هي عبارةٌ عن تكميل النفسِ بحسَبِ القوةِ العملية وتهذيبِها المتفرِّعِ على تكميلها بحسَب القوة النظرية الحاصلِ بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلاً من الأمور المترتبة نعمةٌ جليلةٌ على حِيالها مستوجبةٌ للشكر ، فلو رُوعيَ ترتيبُ الوجود كما في قوله تعالى : { وابعث فِيهِمْ رَسُولاً منْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } [ البقرة ، الآية 129 ] لتبادَر إلى الفهم كونُ الكلِّ نعمةً واحدةً كما مر نظيرُه في قصة البقرة ، وهو السرُّ في التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتابِ والحِكمة رمزاً إلى أنه باعتبار كلِّ عنوانٍ نعمةٌ على حِدةٍ ، ولا يقدح فيه شمولُ الحكمةِ لما في تضاعيف الأحاديثِ الشريفةِ من الشرائع ، وقولُه عز وجل : { وَيُعَلّمُكُم مَا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } صريحٌ في ذلك فإن الموصولَ مع كونه عبارةً عن الكتاب والحِكمة قطعاً قد عُطف تعليمُه على تعليمها ، وما ذلك إلا لتفصيل فنونِ النعم في مقامٍ يقتضيه كما في قوله تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُمْ منْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ هود ، الآية 58 ] عقيب قوله تعالى : { نَجَّيْنَا هُودًا والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ منَّا } [ هود ، الآية 58 ] والمراد بعدم علمِهم أنه ليس من شأنهم أن يعلموه بالكفر والنظر وغيرِ ذلك من طرق العلم لانحصار الطريقِ في الوحي .