قوله تعالى : { لن تنفعكم أرحامكم } معناه : لا يدعونكم ولا يحملنكم ذوو أرحامكم وقراباتكم وأولادكم الذين بمكة إلى خيانة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم فلن تنفعكم أرحامكم ، { ولا أولادكم } الذين عصيتم الله لأجلهم ، { يوم القيامة يفصل بينكم } فيدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار .
قرأ عاصم ويعقوب يفصل بفتح الياء وكسر الصاد مخففاً ، وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الصاد مشدداً ، وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح الصاد مشدداً ، وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الصاد مخففاً . { والله بما تعملون بصير } .
ثم بين - سبحانه - الآثار السيئة التى تترتب على ضلالهم عن سواء السبيل فقال : { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } .
والأرحام : جمع رحم والمراد بهم الأقارب ، الذين كان بعض المؤمنين يوالون المشركين من أجلهم .
أى : منكم - أيها المؤمنون - من أفشى أسراركم للكافرين ، خوفا على أقاربه أو أولاده الذين يعيشون فى مكة مع هؤلاء الكافرين ، والحق أنه لن تنفعكم قراباتكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين من أجلهم شيئا من النفع يوم القيامة ، لأنه فى هذا اليوم { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } أى يفرق بينكم وبين أقاربكم وأولادكم يوم القيامة ، كما قال - تعالى - : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } وكما قال - سبحانه - : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } وخص - سبحانه - الأولاد بالذكر مع أنهم من الأرحام ، لمزيد المحبة لهم - والحنو عليهم .
قال الشوكانى : وجملة { يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } مسأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد فى ذلك اليوم ، ومعنى { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } يفرق بينكم ، فيدخل أهل طاعته الجنة ، ويدخل أهل معصيته النار ، وقيل : المراد بالفصل بينهم ، أنه يفر كل منهم من الآخر من شدة الهول . . . قيل : ويجوز أن يتعلق { يَوْمَ القيامة } بما قبله ، أي : لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة ، فيوقف عليه ، ويبتدأ بقوله { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } والأولى أن يتعلق بما بعده - أي : يفصل بينكم يوم القيامة ، فيوقف على { أَوْلاَدُكُمْ } ويبتدأ بيوم القيامة .
وقراءة الجمهور { يُفْصِلُ بَيْنَكُمْ } - بضم الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد - على البناء للمجهول . وقرأ عاصم { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } بفتح الياء وكسر الصاد - على البناء للفاعل ، وقرأ حمزة والكسائى { يُفَصِّلُ بَيْنَكُمْ } - بضم الياء وفتح الفاء وتشديد الصاد مع الكسر - بالبناء للفاعل - أيضا - .
وقرأ ابن عامر { يُفَصَّلُ بَيْنَكُمْ } - بضم الياء وفتح الفاء وتشديد الصاد مع الفتح - على البناء للمجهول .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : والله - تعالى - لا يخفى عليه شىء من أعمالكم ، بل هو مطلع عليها اطلاعا تاما وسيجازيكم يوم القيامة بما تستحقونه من ثواب أو عقاب .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من الآيات الكريمة ما يأتى :
1 - أن هذه الآيات أصل فى النهى عن موالاة الأعداء ومصافاتهم بأية صورة من الصور ، وشبيه بها قوله - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } وقوله - سبحانه - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } .
2 - أن هذه الآيات الكريمة تتجلى فيها رحمة الله - تعالى - بعباده المؤمنين ، حيث ناداهم بهذه الصفة مع وقوع بعضهم فى الخطأ الجسيم ، وهو إفشاء أسرار المؤمنين لأعدائهم قالوا : وفى هذا رد على المعتزلة الذين يقولون : إن المعصية تنافى الإيمان .
3 - أن هذه الآيات الكريمة فيها ما فيها من الأساليب الحكيمة فى الدعوة إلى الفضائل واجتناب الرذائل ، لأن الله - تعالى - عندما نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم ، ساق لهم الأسباب التى تحملهم على قطع كل صلة بهؤلاء الأعداء . بأن ذكر لهم أن هؤلاء الأعداء قد كفروا بالحق ، وحرصوا على إخراج الرسول والمؤمنين من ديارهم ، وأنهم إن يتمكنوا من المؤمنين ، فسينزلون بهم أشد ألوان الأذى .
وهكذا يجب أن يتعلم الدعاة إلى الله - تعالى - أن على رأس الوسائل التى توصلهم إلى النجاح فى دعوتهم ، أن يأتوا فى دعوتهم بالأسباب المقنعة لاعتناق الحق ، واجتناب الباطل .
4 - أن هذه الآيات الكريمة صريحة فى أن ما يتعلق بالدين والعقيدة ، يجب أن يقدم على ما يتعلق بالأرحام والأولاد ، لأن الأرحام والأولاد لن تنفع يوم القيامة ، وإنما الذى ينفع هو ما يتعلق بالاستجابة لما يفرضه الدين علينا من واجبات وتكاليف .
هذه هي الجولة الأولى بلمساتها المتعددة . ثم تليها جولة ثانية بلمسة واحدة تعالج مشاعر القرابة ووشائجها المتأصلة ؛ والتي تشتجر في القلوب فتجرها جرا إلى المودة ؛ وتنسيها تكاليف التميز بالعقيدة :
( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . يوم القيامة يفصل بينكم . والله بما تعملون بصير ) . .
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة . يزرع هنا وينتظر الحصاد هناك . فلمسة قلبه بما يكون في الآخرة من تقطيع وشائج القربى كلها إذا تقطعت وشيجة العقيدة ، من شأنها أن تهون عنده شأن هذه الوشائج في فترة الحياة الدنيا القصيرة ؛ وتوجهه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع في دنيا ولا في آخرة :
ومن ثم يقول لهم : ( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم ) . . التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها ؛ وتضطركم إلى موادة أعداء الله وأعدائكم وقاية لها - كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله - وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة . لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . ذلك أنه ( يوم القيامة يفصل بينكم ) . . لأن العروة التي تربطكم مقطوعة . وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند الله .
( والله بما تعملون بصير ) . . مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير
وقوله : { لَنْ تَنْفَعَكُمْ أرْحامُكُمْ وَلا أوْلادُكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ } يقول تعالى ذكره : لا يدعونكم أرحامكم وقراباتكم وأولادكم إلى الكفر بالله ، واتخاذ أعدائه أولياء تلقون إليهم بالمودّة . فإنه لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم عند الله يوم القيامة ، فتدفع عنكم عذاب الله يومئذ ، إن أنتم عصيتموه في الدنيا ، وكفرتم به .
وقوله : { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ }يقول جلّ ثناؤه : يفصل ربكم أيها المؤمنون بينكم يوم القيامة بأن يدخل أهل طاعته الجنة ، وأهل معاصيه والكفر به النار .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة والبصرة : «يُفْصَلُ بَيْنَكُمْ » بضم الياء وتخفيف الصاد وفتحها ، على ما لم يسمّ فاعله . وقرأه عامة قرّاء الكوفة خلا عاصم بضم الياء وتشديد الصاد وكسرها بمعنى : يفصل الله بينكم أيها القوم . وقرأه عاصم بفتح الياء وتخفيف الصاد وكسرها ، بمعنى يفصل الله بينكم . وقرأ بعض قرّاء الشام «يُفَصّلُ » بضم الياء وفتح الصاد وتشديدها على وجه ما لم يسم فاعله .
وهذه القراءات متقاربات المعاني صحيحات في الإعراب ، فبأيتها قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : { واللّهُ بِمَا تَعْمَلونَ بَصِيرٌ }يقول جلّ ثناؤه : والله بأعمالكم أيها الناس ذو علم وبصر ، لا يخفى عليه منها شيء ، هو بجميعها محيط ، وهو مجازيكم بها إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ، فاتقوا الله في أنفُسكم واحذروه .