فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَن تَنفَعَكُمۡ أَرۡحَامُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡۚ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَفۡصِلُ بَيۡنَكُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (3)

{ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } أي لا ينفعكم القرابات على عمومها ولا الأولاد ، وخصهم بالذكر مع دخولهم في الأرحام لمزيد المحبة لهم والحنو عليهم ، والمعنى أن هؤلاء لا ينفعونكم شيئا يوم القيامة حتى توالوا الكفار لأجلهم كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، بل الذي ينفعكم ما أمركم الله به من معاداة الكفار ، وترك موالاتهم ، وجملة : { يوم القيامة يفصل بينكم } مستأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد في ذلك اليوم ، والمعنى يفرق بينكم فيدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار ، وقيل : المراد بالفصل بينهم أنه يفر كل واحد منهم من الآخر من شدة الهول كما في قوله : { يوم يفر المرء من أخيه } الآية .

ويجوز أن يتعلق يوم القيامة ، أي لن ينفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة ، ويبتدأ بقوله : يفصل بينكم ، والأولى أن يتعلق يوم القيامة بما بعده ، كما ذكرنا قرأ الجمهور يفصل بالتخفيف وبضم الياء وفتح الصاد مبينا للمفعول واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وقرئ بفتح الياء وكسر الصاد مبنيا للفاعل . وقرئ بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة من التفصيل ، وقرئ بضم الياء وكسر الصاد مخففة ، وقرئ بالنون وكلها سبعية .

{ والله بما تعلمون بصير } لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم ، فهو مجازيكم على ذلك ، وقد أخرج البخاري وعليه وسلم : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به ، فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة ، قلنا : أخرجي الكتاب ، قالت : ما معي من كتاب ، فقلنا ، لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة ، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما هذا يا حاطب ؟ قال لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم ، أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق ، فقال عمر : دعني أضرب عنقه ، فقال : إنه شهد بدرا وما يدريك ؟ لعل الله أطلع على أهل بدر فقال : " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ، ونزلت هذه الآية ( {[1575]} ) .

وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة ، متضمنة لبيان هذه القصة ، وأن هذه الآيات إلى قوله ، { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } ، نازلة في ذلك .


[1575]:رواه مسلم.