معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (43)

قوله تعالى : { إذ يريكهم الله } يريك يا محمد المشركين .

قوله تعالى : { في منامك } ، أي : في نومك ، وقال الحسن : في منامك أي في عينك ، لأن العين موضع النوم .

قوله تعالى : { قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم } ، لجبنتم .

قوله تعالى : { ولتنازعتم } ، أي : اختلفتم .

قوله تعالى : { في الأمر } ، أي : في الإحجام والإقدام .

قوله تعالى : { ولكن الله سلم } ، أي سلمكم من المخالفة والفشل .

قوله تعالى : { إنه عليم بذات الصدور } . قال ابن عباس : علم ما في صدوركم من الحب لله عز وجل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (43)

ثم يبين - سبحانه - بعض وجوه نعمه على المؤمنين ، وتدبيره الخفى لنصرهم وفوزهم فيقول : { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر ولكن الله سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .

أى : اذكر يا محمد فضل الله عليك وعلى أصحابك ، حيث أراك في منامك الكافرين قليلا عددهم ، ضئيلا وزنهم فأخبرت بذلك اتباعك فازدادوا ثباتا واطمئنانا وجرأة على عدوهم { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً } أى : ولو أراك الأعداء عددا كثيرا { لَّفَشِلْتُمْ } أى : لتهيبتهم الإِقدام عليهم ، لكثرة عددهم ، من الفشل وهو ضعف مع جبن { وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر } أى : في أمر الإِقدام عليهم والاحجام عنهم . فمنكم من يرى هذا ومنكم من يرى ذلك .

وقوله { لأَمْرِ ولكن الله سَلَّمَ } بيان لمحل النعمة . أى : ولكن الله - تعالى - بفضله وإحسانه أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والنزاع وتفرق الآراء في شأن القتال : حيث ربط على قلوبكم ، ورزقكم الجرأة على أعدائكم وعدم المبالاة بهم بسبب رؤيا نبيكم .

وقوله : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } تذييل يدل على شمول علمه - سبحانه - .

أى : إنه - سبحانه - عليكم بكل ما يحصل في القلوب وما يخطر بها من شجاعة وجبن ومن صبر وجزع ولذلك دير ما دبر .

قال الفخر الرازى ، قال مجاهد : أرى الله النبى - صلى الله عليه وسلم - كفار قريش في منامه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه فقالوا : رؤيا النبى حق . القوم قليل ، فصار ذلك سببا لجرأتهم وقوة قلوبهم .

فإن قيل : رؤية الكثر قليلا غلط ، فيكف يجوز من الله - تعالى - أن يفعل ذلك ؟

قلنا : ذهبنا أنه - تعالى - يفعل ما يشاء ويحكم ما يريده وأيضا لعله - سبحانه - أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون .

ونستطيع أن نضيف إلى ما أجاب به الفخر الرازى أنه يجوز أن يكون المراد بالقلة : الضعف وهوان الشأن . .

أى : أن المشركين وإن كانوا في حقيقتهم يقاربون الألف - أي أكثر من ثلاثة أمثال المؤمنين - إلا أنهم لا قوة لهم ولا وزن ، فهم كثير عددهم ولكن قليل غناؤهم ، قليل وزنهم في المعركة . لأنهم ينقصهم الإِيمان الصحيح الذي يقوى القلوب ، ويدفع النفوس إلى الإِقدام لنصرة الحق لكى تفوز برضا الله وحسن مثوبته .

وإلى هذا المعنى أشار صاحب المنار بقوله : وقد تقدم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قدر عدد المشركين بألف وأخبر أصحابه بذلك ، ولكنه أخبرهم مع هذا أنه رآهم في منامه قليلا ، لا أنهم قليل في الواقع ، فالظاهر أنهم أولوا الرؤيا بأن بلاءهم يكون قليلا ، وأن كيدهم يكون ضعيفا ، فتجروا وقويت قلوبهم .

هذا ، ونسب إلى الحسن أنه ذكر أن هذه الآراء كانت في اليقظة ، وأن المراد من المنام العين التي هى موضع النوم . قال الزمخشري . وهذا تفسير فيه تعسف . وما أحسبت الرواية صحيحة فيه عن الحسن .

وقال الآلوسى : وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين ، لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة المنامة لأنها ينام فيها ، فلم يكن عنده هناك رؤيا أصلا بل كانت رؤية ، وإليه ذنب البالخى . ولا يخفى ما فيه ، لأن المنام شائع بمعنى النوم مصدر ميمى . ففى الحمل على خلاف ذلك تعقيد ولا نكتة فيه . . على أن الروايات الجمة برؤيته - صلى الله عليه وسلم - إياهم مناما ، وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون العين مكان النوم نظرا إلى الظاهر . . ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة ، فانه الفصيح العالم بكلام العرب .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (43)

41

إن وراء هذا التلاقي على غير موعد - بهذه الدقة وبهذا الضبط - لأمراً مقضياً يريد الله تحقيقه في عالم الواقع ، ويدبر له هذا التدبير الخفي اللطيف ؛ ويجعلكم أنتم أداة تحقيقه ، ويهيئ له جميع الظروف التي تيسر لكم القيام به !

أما هذا الأمر المقتضى الذي دبر الله الظروف لتحقيقه فهو الذي يقول عنه :

ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة . .

والهلاك يعبر به عن مدلوله المباشر ، كما يعبر به عن الكفر . وكذلك الحياة فإنها قد تفيد مدلولها المباشر وقد يعبر بها عن الإيمان . . وهذا المدلول الثاني أظهر هنا ، وذلك كما قال الله سبحانه في مثل هذا المعنى : ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ? ) . . فعبر عن الكفر بالموت وعبر عن الإيمان بالحياة ؛ وجرى في هذا على نظرة الإسلام لحقيقة الكفر وحقيقة الإيمان . هذه النظرة التي أوضحناها بشيء من التفصيل عند استعراض هذه الآية من سورة الأنعام في الجزء الثامن

ووجه ترجيح هذا المدلول هنا أن يوم بدر - كما قال الله سبحانه - كان ( يوم الفرقان )وقد فرق الله فيه بين الحق والباطل - كما ذكرنا منذ قليل - ومن ثم فإن من يكفر بعدها فإنما يكفر في غير شبهة - يكفر عن بينة فيهلك عن بينة - ومن يؤمن بعدها فإنما يؤمن عن بينة واضحة تبرزها المعركة . .

إن الموقعة - بظروفها التي صاحبتها - تحمل بينة لا تجحد ، وتدل دلالة لا تنكر ، على تدبير وراء تدبير البشر ، وعلى قوى وراءها غير قوة البشر . . إنها تثبت أن لهذا الدين رباً يتولى أصحابه متى أخلصوا له وجاهدوا في سبيله وصبروا وثبتوا ، وأنه له كان الأمر إلى القوى المادية الظاهرة ما هزم المشركون ولا انتصرت العصبة المسلمة هذا الانتصار العظيم . .

ولقد قال المشركون أنفسهم لحليفهم الذي أراد أن يمدهم بالرجال وهم ذاهبون للقتال : " فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة " ! ولقد علموا - لو كان العلم يجدي - أنهم إنما يقاتلون الله كما قال لهم محمد الصادق الأمين ، وأنه ما لأحد بالله من طاقة . . فإذا هلكوا بعد ذلك بالكفر فإنما يهلكون عن بينة !

هذا ما يتبادر إلى الذهن من معنى هذا التعقيب : ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة

ولكن يبقى وراءه إيحاء آخر :

إن وقوع المعركة بين جند الحق وجند الباطل ؛ واستعلاء سلطان الحق في عالم الواقع - بعد استعلائه فيعالم الضمائر - إن هذا كله مما يعين على جلاء الحق للعيون والقلوب ؛ وعلى إزالة اللبس في العقول والنفوس ؛ بحيث يتبين الأمر بهذا الفتح ويتجلى ؛ فلا تعود لمن يختار الهلاك - أي الكفر - شبهة في الحق الذي استعلن واستعلى ؛ كما أن الذي يريد أن يحيا - أي يؤمن - لا يعود لديه شك في أن هذا هو الحق الذي ينصره الله ، ويخذل الطغاة .

وهذا يعود بنا إلى ما قدمناه في الجزء التاسع - في التعريف بسورة الأنفال - من الحديث عن ضرورة الجهاد لتحطيم قوى الشر وسلطان الطاغوت ؛ وإعلاء راية الحق وسلطان الله . . فهذا مما يعين على جلاء الحق : ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة . . كما أن هذه اللفتة تساعدنا على تفهم أبعاد الإيحاء الذي يعطيه قول الله تعالى ، في هذه السورة : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . . . )فإعداد القوة والإرهاب بها مما يعين على جلاء الحق في أنماط من القلوب . لا تستيقظ ولا تتبين إلا على إيقاعات القوة التي تحمل الحق وتنطلق به لإعلان تحرير " الإنسان " في " الأرض " كما أسلفنا .

والتعقيب على ذلك الجانب من التدبير الإلهي في المعركة ، وعلى غاية هذا التدبير التي تحققت فعلاً هو : ( وإن الله لسميع عليم ) . . .

فهو - سبحانه - لا يخفى عليه شيء مما يقول فريق الحق أو فريق الباطل ؛ ولا شيء مما يخفونه في صدورهم وراء الأقوال والأفعال ؛ وهو يدبر ويقدر باطلاعه على الظواهر وعلمه بالسرائر ، وهو السميع العليم . .