ولما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام وعلى ظهر الطريق ، ليس فيها ساكن ، فأنزل الله عز وجل { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } أي : بغير استئذان ، { فيها متاع لكم } يعني منفعة لكم . واختلفوا في هذه البيوت ، فقال قتادة : هي الخانات والبيوت والمنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم إليها ، فيجوز دخولها بغير استئذان ، والمنفعة فيها بالنزول وإيواء المتاع والاتقاء من الحر والبرد . وقال ابن زيد : هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلونها للبيع والشراء وهو المنفعة . وقال إبراهيم النخعي : ليس على حوانيت السوق إذن . وكان ابن سيرين إذا جاء إلى حانوت السوق يقول : السلام عليكم أأدخل ؟ ثم يلج . وقال عطاء : هي البيوت الخربة ، والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط . وقيل : هي جميع البيوت التي لا ساكن لها لأن الاستئذان إنما جاء لئلا يطلع على عورة فإن لم يخف ذلك فله الدخول بغير استئذان ، { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } .
وقوله - سبحانه - : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } بمنزلة الاستثناء من الأحكام التى اشتملت عليها الآيتان السابقتان .
فقد ذكر المفسرون أنه لما نزلت آية الاستئذان ، قال بعض الصحابة يا رسول الله . كيف بالبيوت التى بين مكة والمدنية والشام وبيت المقدس ، وهى على ظهر الطريق ، وليس فيها ساكن من أربابها ، فنزلت هذه الآية .
والمراد بالمتاع : التمتع والانتفاع بها .
أى : ليس عليكم - أيها المؤمنون - حرج أو إثم فى أن تدخلوا بغير استئذان بيوتا غير معدة لسكنى طائفة معينة من الناس ، بل هى معدة لينتفع بها من يحتاج إليها من دون أن يتخذها مسكنا له ، كالرباطات ، والفنادق ، والحوانيت ، والحمامات ، وغير ذلك من الأماكن المعدة للراحة المؤقتة لا للسكن والإقامة .
وقوله : { فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } أى : فيها حق تمتع وانتافع لكم ، كالوقاية من الحر والبرد . وكتبادل المنافع فيما بينكم بالبيع أو الشراء ، وغير ذلك مما يتناسب مع وظيفة هذه البيوت غير المسكونة .
وقوله - سبحانه - : { والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } وعيد وتحذير آخل لأولئك الذين يدخلون البيوت ولا يرعون حرمتها ، بل يبيحون لعيونهم ولجوارحهم ، مالم تبحه آداب الإسلام ، وتعاليمه ، كالتطلع إلى العورات . وما يشبه ذلك من المقاصد السيئة .
أى : والله - تعالى - وحده يعلم ما تظهرونه وما تخفونه من أقوال وأعمال ، وسيحاسبكم عليها ، فاحذروا أن تسلكوا مسلكا لا يرضى خالقكم عنكم .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :
1 - أن على كل إنسان - سواء أكان رجلا أم امرأة - أن يستأذن ويسلم قبل الدخول على غيره فى بيته ، لأن الله - تعالى - يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا . . . } فهذا نهى صريح عن الدخول بدون استئذان .
إلا أن جمهور الفقهاء يرون أن الطلب فى الاستئناس على سبيل الوجوب وفى السلام على سبيل الندب ، كما هو حكم السلام فى غير هذا الموطن .
2 - يرى بعض العلماء أن القادم يبدأ بالاستئذان قبل السلام ، كما جاء فى الآية الكريمة ، ويرى كثير منهم تقديم السلام على الاستئذان ، لأن الواو لا تستلزم الترتيب ، ولأن هناك أحاديث متعددة ، تفيد أن السلام مقدم على الاستئذان ، ومنها ما أخرجه الترمذى عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " السلام قبل الكلام " .
وبعض العلماء فصل فى هذه المسألة فقال : إن كان القادم يرى أحدا من أهل البيت ، سلم أولا ثم استأذن فى الدخول ، وإن كان لا يرى أحدا منهم قدم الاستئذان على السلام .
وهذا الرأى وجاهته ظاهرة ، لأن فيه جمعا بين الأدلة .
3 - لا صحة لما ذكره بعضهم من أن أصل الآية " حتى تستأذنوا " ، وأن الكاتبين أخطأوا فى كتابتهم فكتبوا " حتى تستأنسوا " ، وذلك لأن جميع الصحابة أجمعوا على كتابة " حتى تستأنسوا " فى جميع نسخ المصحف العثمانى ، وعلى تلاوة الآية بلفظ " تستأنسوا " ومضى على ذلك إجماع المسلمين فى كل مكان ، سواء فى كتابتهم للمصحف أم فى قراءتهم له .
قال القرطبى : إن مصاحف الإسلام كلها ، قد ثبت فيها " حتى تستأنسوا " وصح الإجماع فيها من لدن عثمان ، فهى لا تجوز مخالفتها . وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب فى لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح .
. . وقد قال الله - تعالى - { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وقال - سبحانه - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } سورة الحجر الآية 9 .
4 - ظاهر قوله - تعالى - : { حتى تَسْتَأْنِسُواْ . . } أن الاستئذان غير مقيد بعدد ، إلا أن السنة الصحيحة قد بينت أن الاستئذان يكون ثلاث مرات فإن لم يؤذن له بعدها انصرف .
ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى ما رواه البخارى عن أبى سعيد الخدرى قال : " كنت فى مجلس من مجالس الأنصار ، إذ جاء أبو موسى - كأنه مذعور - فقال : استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لى فرجعت فقال : ما منعك - أى من الدخول - ؟ قلت : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لى : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع . فقال لى : لتأتين بالبينة . فهل منكم أحد سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ؟ فقام معه أبى بن كعب ، فأخبر عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ذلك " .
قال بعض العلماء : " والراجح أن الواجب إنما هو الاسئتذان مرة . فأما كمال العدد ثلاثا فهو حق المستأذن إن شاء أكمله ، وإن شاء اقتصر على مرة أو مرتين . فقد ثبت أن عمر بن الخطاب استأذن على النبى صلى الله عليه وسلم مرتين ، فلم يؤذن له فرجع ، فتبعه غلام فقال له : ادخل فقد أذن لك النبى صلى الله عليه وسلم .
5 - ظاهر قوله - تعالى - { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } يفيد أنهم ليس عليهم استئذان فى دخول بيوتهم . إلا أن هذا الظاهر يصح حمله على الزوجة . لأنه يجوز بين الزوج وزوجته من الأحوال مالا يجوز لأحد غيرهما ، ومع ذلك فإنه ينبغى أن يشعر الرجل زوجته بقدومه ، حتى لا يفاجئها بما تكره له أن يطلع عليه .
ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسره لهذه الآيات : وهذا - أى عدم الاستئذان على الزوجة - محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به ، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها . . . ولهذا جاء فى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا .
وأما بالنسبة لغير زوجته ، كأمه ، وأخواته ، وبنيه وبناته البالغين ، فإنه يلزمه أن يستأذن عليهم ، لأنه إن دخل عليهم بدون استئذان ، فقد تقع علينه على ما لا يصح الاطلاع عليه .
ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى . ما أخرجه مالك فى الموطأ عن عطاء بن يسار ، " أن رجلا قال للنبى صلى الله عليه وسلم : أأستأذن على أمى ؟ قال : " نعم ، قال : ليس لها خادم غيرى ، أأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال صلى الله عليه وسلم أتحب أن تراها عريانة ؟ قال : لا . . . قال : فاستأذن عليها " " .
وأخرج البخارى فى الأدب المفرد عن نافع : كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم ، لم يدخل عليه إلا بإذن .
6 - وردت أحاديث متعددة فى كيفية الاستئذان ، وفى التحذير من التطلع إلى بيوت الغير بدون إذن .
فمن آداب الاستئذان أن لا يقف المستأذن أمام الباب بوجهه . ولكنه يجعل الباب عن يمينه أو عن يساره ، ومن الأحاديث التى وردت فى ذلك ما أخرجه أبو داود عن عبد الله بن بشر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم ، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول : السلام عليكم .
كذلك من آداب الاستئذان أن لا يقول المستأذن " أنا " فى الرد على رب المنزل ، وإنما يذكر اسمه ، ففى صحيح البخارى عن جابر قال : أتيت النبى صلى الله عليه وسلم فى دين كان على أبى ، فدققت الباب ، فقال : من ذا ؟ قلت : أنا . فقال أنا ، أنا ، كأنه كرهها " .
ولعل السر فى النهى عن الرد بلفظ " أنا " أن هذا اللفظ يعبر به كل واحد عن نفسه ، فلا تحصل به معرفة شخصية المستأذن ، والمقصود بالاستئذان الإفصاح لا الإبهام .
أما التحذير من التطلع إلى بيوت الغير بدون إذن ، فيكفى لذلك ما جاء فى الصحيحين عن أبى هريرة ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذنك فحذفته - أى : - رميته - بحصاة ، ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح " " .
هذه بعض الأحكام والآداب التى تتعلق بالاستئذان ، ومنها نرى كيف أدب الإسلام أتباعه بهذا الأدب العالى ، الذى يؤدى التمسك به إلى غرس الفضائل ومكارم الأخلاق فى نفوس الأفراد والجماعات .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ليس عليكم أيها الناس إثم وحرج أن تدخلوا بيوتا لا ساكن بها بغير استئذان .
ثم اختلفوا في ذلك أيّ البيوت عَنَى ، فقال بعضهم : عَنعى بها الخانات والبيوت المبنية بالطرق التي ليس بها سكان معروفون ، وإنما بنيت لمارّة الطريق والسابلة ليأوُوا إليها ويُؤْوُوا إليها أمتعتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن سالم المكّيّ ، عن محمد ابن الحنفية ، في قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ قال : هي الخانات التي تكون في الطرق .
حدثني عباس بن محمد ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا عمر بن فَرّوخ ، قال : سمعت قَتادة يقول : بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ قال : هي الخانات تكون لأهل الأسفار .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ قال : كانوا يضعون في بيوت في طرق المدينة متاعا وأقتابا ، فرُخّص لهم أن يدخلوها .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ قال : هي البيوت التي ينزلها السّفْر ، لا يسكنها أحد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بُيُوتا غيرَ مسْكُونَةٍ قال : كانوا يصنعون أو يضعون بطريق المدينة أقتابا وأمتعة في بيوت ليس فيها أحد ، فأحلّ لهم أن يدخلوها بغير إذن .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : كانوا يضعون بطريق المدينة بغير شكّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله ، غير أنهقال : كانوا يضعون بطريق المدينة أقتابا وأمتعة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مسْكُونَةٍ هي البيوت التي ليس لها أهل ، وهي البيوت التي يكون بالطرق والخَرِبة . فِيها مَتاعٌ منفعة للمسافر في الشتاء والصيف ، يأوي إليها .
وقال آخرون : هي بيوت مكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن سعيد بن سائق ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن سالم بن محمد ابن الحنفية ، في : بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ قال : هي بيوت مكة .
وقال آخرون : هي البيوت الخَرِبة . والمتاع الذي قال الله لكم فيها قضاء الحاجة من الخلاء والبول فيها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عطاء يقول : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ قال : الخلاء والبول .
حدثني محمد بن عُمارة ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا حسن بن عيسى بن زيد ، عن أبيه ، في هذه الآية : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ قال : التخلّي في الخراب .
وقال آخرون : بل عني بذلك بيوت التجار التي فيها أمتعة الناس . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فيها مَتاعٌ لَكُمْ قال : بيوت التجار ، ليس عليكم جناح أن تدخلوها بغير إذن ، الحوانيت التي بالقَيساريات والأسواق . وقرأ : فِيها مَتاعٌ لَكُمْ متاع للناس ، ولبني آدم .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عمّ بقوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةِ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ كلّ بيت لا ساكن به لنا فيه متاع ندخله بغير إذن لأن الإذن إنما يكون ليؤْنَس المأذون عليه قبل الدخول ، أو ليأذن للداخل إن كان له مالكا أو كان فيه ساكنا . فأما إن كان لا مالك له ، فيحتاج إلى إذنه لدخوله ولا ساكن فيه ، فيحتاج الداخل إلى إيناسه والتسليم عليه ، لئلا يهجُم على ما لا يحبّ رؤيته منه ، فلا معنى للاستئذان فيه . فإذا كان ذلك ، فلا وجه لتخصيص بعض ذلك دون بعض ، فكلّ بيت لا مالك له ولا ساكن من بين مبنيّ ببعض الطرق للمارّة والسابلة ليأووا إليه ، أو بيت خراب قد باد أهله ولا ساكن فيه ، حيث كان ذلك ، فإن لمن أراد دخوله أن يدخل بغير استئذان ، لمتاع له يؤويه إليه أو للاستمتاع به لقضاء حقه من بول أو غائط أو غير ذلك . وأما بيوت التجار ، فإنه ليس لأحد دخولها إلا بإذن أربابها وسكانها .
فإن ظنّ ظانّ أن التاجر إذا فتح دكانه وقعد للناس فقد أذِن لمن أراد الدخول عليه في دخوله ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنّ وذلك أنه ليس لأحد دخول ملك غيره بغير ضرورة ألجأته إليه أو بغير سبب أباح له دخوله إلا بإذن ربه ، لا سيما إذا كان فيه متاع فإن كان التاجر قد عُرِف منه أن فتحه حانوته إذن منه لمن أراد دخوله في الدخول ، فذلك بعدُ رجع إلى ما قلنا من أنه لم يدخله من دخله إلا بإذنه . وإذا كان ذلك كذلك ، لم يكن من معنى قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ في شيء ، وذلك أن التي وضع الله عنا الجُناح في دخولها بغير إذن من البيوت ، هي ما لم يكن مسكونا ، إذ حانوت التاجر لا سبيل إلى دخوله إلا بإذنه وهو مع ذلك مسكون ، فتبين أنه مما عَنَى الله من هذه الآية بمعزل .
وقال جماعة من أهل التأويل : هذه الآية مستثناة من قوله : لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا على أهْلِها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتَكُمْ ثم نسخ واستثنى فقال : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة : حتى تَستأنِسُوا . . . الآية ، فنُسخ من ذلك ، واستُثني فقال : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ . وليس في قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ دلالة على أنه استثناء من قوله : لا تَدْخُلُوا بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتأْنِسُوا لأن قوله : لا تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا عَلى أهْلِها حكم من الله في البيوت التي لها سكان وأرباب . وقوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُلُوا بُيُوتا غيرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ حكم منه في البيوت التي لا سكان لها ولا أرباب معروفون ، فكل واحد من الحكمين حكم في معنى غير معنى الاَخر ، وإنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان من جنسه أو نوعه في الفعل أو النفس ، فأما إذا لم يكن كذلك فلا معنى لاستثنائه منه . وقوله : وَاللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ يقول تعالى ذكره : والله يعلم ما تظهرون أيها الناس بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة ، وَما تَكْتُمُونَ يقول : وما تضمرونه في صدوركم عند فعلكم ذلك ما الذي تقصدون به : إطاعة الله والانتهاء إلى أمره ، أم غير ذلك ؟
{ ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } كالربط والحوانيت والخانات والخانقات . { فيها متاع } استماع . لكم كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والجلوس للمعاملة ، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها . { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } وعيد لمن دخل مدخلا لفساد أو تطلع على عورات .
هذا تخصيص لعموم قوله : { بيوتاً غير بيوتكم } [ النور : 27 ] بالبيوت المعدة للسكنى ، فأما البيوت التي ليست معدودة للسكنى إذا كان لأحد حاجة في دخولها أن له أن يدخلها لأن كونها غير معدودة للسكنى تجعل القاطن بها غير محترز من دخول الغير إليها بل هو على استعداد لمن يغشاه فهي لا تخلو من أن تكون خاوية من الساكن مثل البيوت المقامة على طرق المسافرين لنزولهم ، كما كانت بيوت على الطريق بين الحجاز والشام في طريق التجار كانوا يأوون إليها ويحطون فيها متاعهم للاستراحة ثم يرتحلون عنها ويستأنفون سيرهم ، وتسمى الخانات جمع خان بالخاء المعجمة فهو اسم معرب من الفارسية . ومثلها بيوت كانت في بعض سكك المدينة كانوا يضعون بها متاعاً وأقتاباً وقد بناها بعض من يحتاج إليها وارتفق بها غيرهم .
وأما أن تكون تلك البيوت مأهولة بأناس يقطنونها يأوون المسافرين ورحالهم ورواحلهم ويحفظون أمتعتهم ويبيتونهم حتى يستأنفوا المرحلة مثل الخانات المأهولة والفنادق . وكذلك البيوت المعدودة لبيع السلع ، والحمامات ، وحوانيت التجار ، وكذلك المكتبات وبيوت المطالعة فهذه مأهولة ولا تسمى مسكونة لأن السكنى هي الإقامة التي يسكن بها المرء ويستقر فيها ويقيم فيها شؤونه . فمعنى قوله : { غير مسكونة } أنها غير مأهولة على حالة الاستقرار أو غير مأهولة البتة .
وأما الخوانيق ( جمع خانقاه ويقال الخانكات جمع خانكاهْ ) وهي منازل ذات بيوت يقطنها طلبة الصوفية ، وكذلك المدارس يقطنها طلبة العلم ، وكذلك الربط جمع رباط وهو مأوى الحراس على الثغور ، فلا استئذان بين قطانها لأنهم قد طرحوا الكلفة فيما بينهم فصاروا كأهل البيت الواحد ولكن على الغريب عنهم أن يستأذن في الدخول عليهم فيأذن له ناظرهم أو كبيرهم أو من يبلغ عنهم .
وقوله : { فيها متاع لكم } صفة ثانية ل { بيوتاً } .
والمتاع : الجهاز من العروض والسلع والرحال . وظاهر قوله : { فيها متاع } أن المتاع موضوع هناك قبل دخول الداخل فلا مفهوم لهذه الصفة لأنها خرجت مخرج التنبيه على العذر في الدخول . ويشمل ذلك أن يدخلها لوضع متاعه بدلالة لحن الخطاب . وكذلك يشمل دخول المسافر وإن كان لا متاع له لقصد التظلل أو المبيت بدلالة لحن الخطاب أو القياس .
وقد فسر المتاع بالمصدر ، أي التمتع والانتفاع . قال جابر بن زيد : كل منافع الدنيا متاع . وقال أبو جعفر النحاس : هذا شرح حسن من قول إمام من أيمة المسلمين وهو موافق للغة ، وتبعه على ذلك في « الكشاف » . ونوه بهذا التفسير أبو بكر ابن العربي فيكون إيماء إلى أن من لا منفعة له في دخولها لا يؤذن له في دخولها لأنه يضيق على أصحاب الاحتياج إلى بقاعها .
وجملة : { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } مستعملة في التحذير من تجاوز ما أشارت إليه الآية من القيود وهي كون البيوت غير مسكونة وكون الداخل محتاجاً إلى دخولها بله أن يدخلها بقصد التجسس على قطانها أو بقصد أذاهم أو سرقة متاعهم .