الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{لَّيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ مَسۡكُونَةٖ فِيهَا مَتَٰعٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ} (29)

فيه مسألتان :

الأولى-روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمّق في الأمر{[11879]} ، فكان لا يأتي موضعا خربا ولا مسكونا إلا سلم واستأذن ، فنزلت هذه الآية ، أباح الله تعالى فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل خوف الكشفة على الحرمات فإذا زالت العلة زال الحكم .

الثانية-اختلف العلماء في المراد بهذه البيوت ، فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد : هي الفنادق التي في طرق السابلة . قال مجاهد : لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل ، وفيها متاع لهم ، أي استمتاع بمنفعتها . وعن محمد بن الحنفية أيضا أن المراد بها دور مكة ويبينه قول مالك . وهذا على القول بأنها غير متملكة ، وأن الناس شركاء فيها وأن مكة أخذت عنوة . وقال ابن زيد والشعبي : هي حوانيت القيساريات . قال الشعبي : لأنهم جاؤوا بيوعهم فجعلوها فيها ، وقالوا للناس هلم . وقال عطاء : المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط ، ففي هذا أيضا متاع . وقال جابر بن زيد : ليس يعني بالمتاع الجهاز ، ولكن ما سواه من الحاجة ، أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار ، أو خربة يدخلها لقضاء حاجة ، أو دار ينظر إليها فهذا متاع وكل منافع الدنيا متاع . قال أبو جعفر النحاس : وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين ، وهو موافق للغة . والمتاع في كلام العرب : المنفعة ، ومنه أمتع الله بك . ومنه " فمتعوهن " {[11880]}[ الأحزاب : 49 ] . قلت : واختاره أيضا القاضي أبو بكر بن العربي وقال : أما من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل وجاء بالفيصل ، وبين أن الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع فالطالب يدخل في الخانكات وهي المدارس لطلب العلم ، والساكن يدخل الخانات وهي الفناتق ، أي الفنادق ، والزبون يدخل الدكان للابتياع ، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة ، وكل يؤتي على وجهه من بابه . وأما قول ابن زيد والشعبي فقول{[11881]} وذلك أن بيوت القيساريات محظورة بأموال الناس ، غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع ، ولا يدخلها إلا من أذن له ربها ، بل أربابها موكلون بدفع الناس .


[11879]:في ك: الإذن.
[11880]:راجع ج 14 ص 202.
[11881]:في ط: فتقول.