قوله تعالى : { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } وكان الأمر كذلك ، فإنهم أخرجوا من ديارهم فلم يخرج المنافقون معهم . قوله تعالى : { ولئن نصروهم ليولن الأدبار } أي لو قدر وجود نصرهم . قال الزجاج : معناه لو قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين ، { ثم لا ينصرون } يعني بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصرهم .
ثم أبطل - سبحانه - أقولاهم بصورة أكثر تفصيلا فقال : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } .
أى : والله لئن أخرج المؤمنون اليهود من ديارهم ، فإن هؤلاء المنافقين لا يخرجون معهم ، ولئن قاتل المؤمنون اليهود ، فإن المنافقين لن ينصروا اليهود ، ولئن نصروهم - على سبيل الفرض والتقدير - ليولين المنافقون الأدبار فرارا منكم - أيها المؤمنون - ، ثم لا ينصرون بعد ذلك ، لاهم ولا من قاموا بنصرهم ، لأن الفريقين اجتمعوا على الباطل واتحدث قلوبهم فىالجبن والخور والحرص على الحياة .
فأنت ترى أن هاتين الآيتين الكريمتين ، قد وصفتا المنافقين ، بالكفر والعصيان ، وبالتحالف مع كل محارب للدعوة الإسلامية ، وبنقض العهود ، وخلف الوعود ، وبالجبن الخالع ، والكذب الواضح . .
وقد تحقق ما أخبرت عنه الآيتان عن هؤلاء المنافقين . فإن يهود بنى النضير عندما جد الجد ، وحالت ساعة رحيلهم . . . أرسلوا إلى المنافقين يطلبون عونهم ، فما كان من المنافقين إلا أن خذلوهم ، وتحللوا من وعودهم لهم . .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قيل : { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } يعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم ؟ قلت : معناه ، ولئن نصروهم على سبيل الفرض والتقدير . . . كقوله { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } وكما يعلم - سبحانه - ما يكون فهو يعلم مالا يكون .
والمعنى : ولئن نصر المنافقون اليهود لينهزمن المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك . أى يهلكم الله - تعالى - ولا ينفعهم نفاقهم ، لظهور كفرهم ، أو لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصر المنافقين لهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نّصَرُوهُمْ لَيُوَلّنّ الأدْبَارَ ثُمّ لاَ يُنصَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : لئن أُخرج بنو النضير من ديارهم ، فأَجْلوا عنها لا يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم الخروج من ديارهم ، ولئن قاتلهم محمد صلى الله عليه وسلم لا ينصرهم المنافقون الذين وعدوهم النصر ، ولئن نصر المنافقون بني النضير ليولّنّ الأدبار منهزمين عن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه هاربين منهم ، قد خذلوهم { ثُمّ لا يُنْصَرُونَ }يقول : ثم لا ينصر الله بني النضير على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه بل يخذلهم .
كما قال :{ لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم }وكان كذلك فإن ابن أبي وأصحابه راسلوا بني النضير بذلك ثم أخلفوهم ، وفيه دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن . { ولئن نصروهم } على الفرض والتقدير{ ليولن الأدبار } انهزاما { ثم لا ينصرون }بعد بل يخذلهم الله ولا ينفعهم نصرة المنافقين أو نفاقهم إذ ضمير الفعلين يحتمل أن يكون لليهود وأن يكون للمنافقين .
وقوله عز وجل : { لئن نصروهم } معناه : ولئن حاولوا ذلك فإنهم ينهزمون ، ثم لا ينصر الله تعالى منهم أحداً ، وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله : { لا يخرجون } و : { لا ينصرونهم } لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط ، وفي هذا نظر{[11030]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لئن أُخرج بنو النضير من ديارهم، فأَجْلوا عنها لا يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم الخروج من ديارهم، ولئن قاتلهم محمد صلى الله عليه وسلم لا ينصرهم المنافقون الذين وعدوهم النصر، ولئن نصر المنافقون بني النضير ليولّنّ الأدبار منهزمين عن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هاربين منهم، قد خذلوهم.
{ثُمّ لا يُنْصَرُونَ} يقول: ثم لا ينصر الله بني النضير على محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بل يخذلهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وكما يعلم ما يكون، فهو يعلم ما لا يكون، لو كان كيف يكون.
والمعنى: ولئن نصر المنافقون اليهود، لينهزمن المنافقون، ثم لا ينصرون بعد ذلك، أي: يهلكهم الله تعالى، ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم. أو لينهزمنَّ اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله عز وجل: {ولئن نصروهم} معناه: ولئن حاولوا ذلك، فإنهم ينهزمون، ثم لا ينصر الله تعالى منهم أحداً.
واعلم أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها، فعلم الموجودات في الأزمنة الثلاثة، والمعدومات في الأزمنة الثلاثة، وعلم في كل واحد من هذه الوجوه الستة، أنه لو كان على خلاف ما وقع، كيف كان يكون على ذلك التقدير. فهاهنا أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم، وقد كان الأمر كذلك، لأن بني النضير لما أخرجوا لم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا أيضا فما نصروهم.
فأما قوله تعالى: {ولئن نصروهم} فتقديره كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير: لا نسلم أن الأمر كما تقول، ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول، لكنه لا يفيد لك فائدة، فكذا هاهنا؛ ذكر تعالى أنهم لا ينصرونهم، وبتقدير أن ينصروا، إلا أنهم لا بد وأن يتركوا تلك النصرة وينهزموا، ويتركوا أولئك المنصورين في أيدي الأعداء، ونظير هذه الآية قوله: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} وهذه بشارة مستقلة بنفسها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولقد صدق الله، وكذبوا في الأمرين معاً: القتال والإخراج؛ لا نصروهم، ولا خرجوا معهم. فكان ذلك من أعلام النبوة، وعلم به من كان شاكاً، فضلاً عن الموقنين، صدق الكلام. وحقرهم بقوله: {الأدبار}.
ولما كان من عادة العرب الكر بعد الفر، بين أنهم لا كرة لهم بعد هذه الفرة وإن طال المدى فقال: {ثم لا ينصرون} أي لا يتجدد لفريقيهم ولا لواحد منهما نصرة في وقت من الأوقات، وقد صدق سبحانه، لم يزل المنافقون واليهود في الذل ولا يزالون.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولا يستكثر هذا عليهم، فإن الكذب وصفهم، والغرور والخداع مقارنهم، والنفاق والجبن يصحبهم، ويخذلون إخوانهم، أحوج ما كانوا إليهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الادبار ثُمَّ لاَ ينصرون}. وفعل نصروهم إرادة وقوع الفعل بقرينة قوله: {ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} فيكون إطلاق الفعل على إرادته مثل قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية} [المائدة: 6] وقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98]. والمعنى: أنه لو فرض أنهم أرادوا نصرهم، فإن أمثالهم لا يترقب منهم الثبات في الوغَى، فلو أرادوا نصرهم وتجهّزوا معهم لفرّوا عند الكريهة.
والمقصود تثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتأمينهم من بأس أعدائهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} لأن ذلك سوف يبعدهم عن ديارهم، ويفصلهم عن مصالحهم، ويعقد علاقاتهم بالمسلمين من أهلهم، من دون أن يحصلوا على شيء من اليهود في دار هجرتهم، ما يجعل صفقتهم خاسرةً على جميع المستويات.
{وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ} لأنهم لا يؤمنون بالمسألة اليهودية، لا في العقيدة ولا في المصلحة، فلا قضية لديهم ليقاتلوا من أجلها على صعيد الإيمان.
{وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} في الحالات التي تفرض عليهم الأوضاع أن ينصروهم ويدخلوا معهم في المعركة، في ما يشبه المأزق الحرج؛ {لَيُوَلُّنَّ الأدبارَ} في عملية الفرار من المعركة، لينقذوا أنفسهم من الهلاك، لأنهم ليسوا في وارد الرغبة في الموت لحساب أيّ أحدٍ، باعتبار أن شعار النفاق هو سلامة الذات والموت للجميع.
{ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} لأنهم لا يملكون أسباب النصر في موازين القوة هناك.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
- خلف الوعد آية النفاق وعلاماته البارزة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... وبالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد معيّن، إلاّ أنّها من المسلّم لا تختص به، بل بيان أصل عامّ في علاقة المنافقين مع سائر أعداء الإسلام، بالإضافة إلى الوعود الكاذبة التي يمنحها كلّ منهم للآخر، وتقرّر بطلان وخواء كلّ هذه الروابط والوعود ومن المسلّم أنّ المؤمنين الصادقين إذا التزموا بواجباتهم فإنّهم سينتصرون عليهم، ويحبطون خططهم...