قوله تعالى : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } قرأ حمزة و الكسائي : أنجيتكم وواعدتكم و رزقتكم بالتاء على التوحيد . وقرأ الآخرون : بالنون والألف على التعظيم ولم يختلفوا في { ونزلنا } لأنه مكتوب بالألف { ولا تطغوا فيه } قال ابن عباس : لا تظلموا . قال الكلبي : لا تكفروا النعمة ، فتكونوا ظالمين طاغين . وقيل : لا تنفقوا في معصيتي . وقيل : لا تتقوا بنعمتي على معاصي ، وقيل :لا تدخروا ، فادخروا فتدود ، { فيحل } قرأ الأعمش والكسائي : ( فيحل ) بضم الحاء ( ومن يحلل ) بضم اللام ، يعني : ينزل ، وقرأ الآخرون : بكسرها يعني : يجب { عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } هلك وتردى في النار .
والأمر فى قوله - سبحانه - { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } للإباحة ، والجملة مقول لقول محذوف . أى : وقلنا لهم كلوا من طيبات ما رزقناكم من المن والسلوى ، ومن غيرهما من اللذائذ التى أحلها الله لكم .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى } تحذير لهم من تجاوز الحدود التى شرعها الله - تعالى - لهم ، إذ الطغيان مجاوزة الحد فى كل شىء .
والضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى الموصول الذى هو { مَا } فى قوله : { مَا رَزَقْنَاكُمْ } ويحل - بكسر الحاء - بمعنى يجب . يقال : حل أمر الله على فلان يحل حلالا بمعنى وجب .
وقرأ الكسائى { فَيَحُلَّ } بضم الحاء بمعنى ينزل يقال : حل فلان بالمكان يحل - بالضم حلولا ، إذا نزل به .
والمعنى : كلوا يا بنى إسرائيل من الطيبات التى رزقكم الله إياها واشكروه عليها ، ولا تتجاوزوا فيما رزقناكم الحدود التى شرعناها لكم ، فإنكم إذا فعلتم ذلك حق عليكم غضبى ، ونزل بكم عقابى ، ومن حق عليه غضبى ونزل به عقابى { فَقَدْ هوى } أى : إلى النار .
وأصله السقوط من مكان مرتفع كجبل ونحوه . يقال : هوى فلان - بفتح الواو - يهوى - بكسرها - إذا سقط إلى أسفل ، ثم استعمل فى الهلاك للزومه له .
وقوله : " كُلُوا مِنْ طَيّباتِ ما رَزَقْناكُمْ " يقول تعالى ذكره لهم : كلوا يا بني إسرائيل من شهيات رزقنا الذي رزقناكم ، وحلاله الذي طيبناه لكم وَلا تَطْغَوْا فِيهِ يقول : ولا تعتدوا فيه ، ولا يظلم فيه بعضكم بعضا ، كما :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قول : " وَلا تَطْغَوْا فِيهِ " يقول : ولا تظلموا .
وقوله : " فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي " يقول : فينزل عليكم عقوبتي ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة ، قوله : " فَيَحلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي " يقول : فينزل عليكم غضبي .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة " فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ " بكسر الحاء وَمَنْ يَحْلِلْ بكسر اللام . ووجهوا معناه إلى : فيجب عليكم غضبي . وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : «فَيَحُلّ عَلَيْكُمْ » بضم الحاء ، ووجهوا تأويله إلى ما ذكرنا عن قَتادة من أنه : فيقع وينزل عليكم غضبي .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وقد حذّر الله الذين قيل لهم هذا القول من بني إسرائيل وقوع بأسه بهم ونزوله بمعصيتهم إياه إن هم عصوه ، وخوّفهم وجوبه لهم ، فسواء قرىء ذلك بالوقوع أو بالوجوب ، لأنهم كانوا قد خوّفوا المعنيين كليهما .
{ كلوا من طيبات ما رزقناكم } لذائذه أو حلالاته ، وقرأ حمزة والكسائي " أنجيتكم " " وواعدتكم " و " ما رزقتكم " على التاء وقرئ " ووعدتكم " " ووعدناكم " ، والأيمن بالجر على الجوار مثل : حجر ضب خرب . { ولا تطغوا فيه } فيما رزقناكم بالإخلال بشكره والتعدي لما حد الله لكم فيه كالسرف والبطر والمنع عن المستحق . { فيحل عليكم غضبي } فيلزمكم عذابي ويجب لكم من حل الدين إذا وجب أداؤه . { ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } فقد تردى وهلك . وقيل وقع في الهاوية ، وقرأ الكسائي " يحل " و { ويحلل } بالضم من حل يحل إذا نزل .
ويكون قوله تعالى : { كلوا } بتقدير قيل لهم كلوا ، وتكون الآية على هذا اعتراضاً في أثناء قصة موسى المقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله تعالى ، والمعنى الأول أظهر وأبين . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «نجينا وواعدنا ونزلنا ورزقناكم » إلا أن أبا عمرو قرأ «وعدناكم » بغير ألف في كل القرآن{[8139]} ، وقرأ حمزة والكسائي «أنجيت وواعدت ونزلنا ورزقتكم » . وقوله { وواعدناكم } قيل هي لغة في وعد لا تقتضي فعل اثنين ع وإن حملت على المعهود فلأن التلقي والعزم على ذلك كالمواعدة ، وقصص هذه الآية أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل وغرق فرعون وعد بني إسرائيل وموسى أن يصيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه موسى ويناجيه بما فيه صلاحهم بأوامرهم ونواهيهم ، فلما أخذوا في السير تعجل موسى عليه السلام للقاء ربه حسبما يأتي ذكره ، وقالت فرقة هذا { الطور } هو الذي كلم فيه موسى أولاً حيث رأى النار وكان في طريقه من الشام إلى مصر ، وقالت فرقة ليس به و { الطور } الجبل الذي لا شعرا فيه{[8140]} وقوله { الأيمن } إما أن يريد اليمن وإما أن يريد اليمين بالإضافة إلى ذي يمين إنسان أو غيره . و { المن والسلوى } طعامهم ، وقد مضى في البقرة استيعاب تفسيرهما ، وقوله تعالى : { من طيبات } يريد الحلال الملك ، لأن المعنى في هذا الموضع قد جمعهما واختلف الناس ما القصد الأول بلفظة الطيب في القرآن ، فقال مالك رحمه الله الحلال ، وقال الشافعي ما يطيب للنفوس ، وساق إلى هذا الخلاف تفقههم في الخشاش{[8141]} والمستقذر من الحيوان . و { تطغوا } معناه تتعدون الحد وتتعسفون كالذي فعلوا ع . وقرأ جمهور الناس «فيحِل » بكسر الحاء «ومن يحلِل » بكسر اللام ، وقرأ الكسائي وحده{[8142]} «فيحُل » بضم الحاء «ومن يحلُل » بضم اللام فمعنى الأول فيجب ومعنى الثاني فيقع وينزل ، و { هوى } معناه سقط من علو إلى أسفل ومنه قول خنافر :
فهوى هوي العقاب . . . {[8143]} قال القاضي أبو محمد : وإن لم يكن سقوطاً فهو شبيه بالساقط والسقوط حقيقة قول الآخر : [ الوافر ]
هويّ الدلْو أسلمه الرشاء{[8144]} . . . ويشبه الذي وقع في طامة أو ورطة بعد أن كان بنجوة منها بالساقط فالآية من هذا أي «هوي » في جهنم وفي سخط الله ، وقيل أخذ الفعل من لفظ الهاوية وهو قعر جهنم .