معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (20)

{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى } أقل من ، { ثلثي الليل ونصفه وثلثه } قرأ أهل مكة والكوفة : { نصفه وثلثه } بنصب " الفاء " و " الثاء " وإشباع الهاءين ضماً ، أي : وتقوم نصفه وثلثه وقرأ الآخرون بجر الفاء والثاء وإشباع الهاءين كسراً ، عطفاً على ثلثي ، { وطائفة من الذين معك } يعني المؤمنين وكانوا يقومون معه ، { والله يقدر الليل والنهار } قال عطاء : يريد لا يفوته علم ما تفعلون ، إي أنه يعلم مقادير الليل والنهار فيعلم القدر الذي تقومون من الليل ، { علم أن لن تحصوه } قال الحسن : قاموا حتى انتفخت أقدامهم ، فنزل : { علم أن لن تحصوه } لن تطيقوه . وقال مقاتل : كان الرجل يصلي الليل كله ، مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام ، فقال : { علم أن لن تحصوه } لن تطيقوا معرفة ذلك . { فتاب عليكم } فعاد عليكم بالعفو والتخفيف ، { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } يعني في الصلاة ، قال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء . قال قيس بن حازم : صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة ، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ، ثم ركع ، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال : إن الله عز وجل يقول : فاقرؤوا ما تيسر منه .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عثمان بن صالح ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني حميد بن مخراق ، عن أنس بن مالك " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية لم يحاججه القرآن يوم القيامة ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر " .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني القاسم بن زكريا بن عبيد الله بن موسى ، عن شيبان ، عن يحيى ، عن محمد عبد الرحمن مولى ابن زهرة ، عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو قال : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ القرآن في كل شهر ، قال قلت : إني أجد قوة ، قال : فاقرأه في كل عشرين ليلة ، قال قلت : إني أجد قوة ، قال : فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك " . قوله عز وجل : { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } يعني المسافرين للتجارة يطلبون من رزق الله ، { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } لا يطيقون قيام الليل . روى إبراهيم عن ابن مسعود قال : أيما رجل جلب شيئا ماً إلى المدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ، ثم قرأ عبد الله : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه } أي ما تيسر عليكم من القرآن . قال أهل التفسير كان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بالصلوات الخمس ، وذلك قوله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً } قال ابن عباس : يريد ما سوى الزكاة من صلة الرحم ، وقرى الضيف . { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً } تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم ، { وأعظم أجراً } من الذي أخرتم ، ولم تقدموه ، ونصب خير وأعظم على المفعول الثاني ، فإن الوجود إذا كان بمعنى الرؤية يتعدى إلى مفعولين ، وهو فصل في قول البصريين ، وعماد في قول الكوفيين ، لا محل له في الإعراب .

أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي الكشمهيني ، أنبأنا أبو نصر أحمد بن علي البخاري بالكوفة ، أنبأنا أبو القاسم نصر بن أحمد الفقيه بالموصل ، حدثنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن الحارث بن سويد قال : قال عبد الله : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه ؟ قالوا : يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه . قال : اعلموا ما تقولون قالوا ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله ، قال : ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله ، قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر " . { واستغفروا الله } لذنوبكم ، { إن الله غفور رحيم } .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (20)

< إن ربك يعلم أنك تقوم } للصلاة والقراءة { أدنى } أقل { من ثلثي الليل ونصفه وثلثه }

أي وتقوم نصفه وثلثه { وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار } فيعلم مقادير أوقاتهما { علم أن لن تحصوه } لن تطيقوا قيام الليل { فتاب عليكم } رجع لكم إلى التخفيف { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } رخص لهم أن يقوموا فيقرؤوا ما أمكن وخف بغير مقدار معلوم من القراءة والمدة { علم أن سيكون منكم مرضى } فيثقل عليهم قيام الليل وكذلك المسافرون للتجارة والجهاد وهو قوله { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } يريد أنه خفف قيام الليل لما علم من ثقله على هؤلاء { فاقرؤوا ما تيسر منه } قال المفسرون وكان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بالصلوات الخمس وقوله { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا } مما خلفتم وتركتم { واستغفروا الله إن الله غفور } لذنوب المؤمنين { رحيم } بهم

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (20)

ولما كان ربما تغالى بعض الناس في العبادة وشق على نفسه ، وربما شق على غيره ، أشار سبحانه وتعالى إلى الاقتصاد تخفيفاً لما يلحق الإنسان من النصب ، مشيراً إلى ما يعمل حالة اتصال الروح بالجسد وهي حالة الحياة ، لأن منفعتها التزود{[69579]} من كل خير لما أدناه{[69580]} هول المقابر ، فإن الروح في غاية اللطافة ، والجسد في غاية الكثافة ، لأنها من عالم الأمر ، وهو ما يكون الإيجاد فيه بمرة واحدة من غير تدريج وتطوير والجسد من عالم الخلق فهي غريبة فيه تحتاج إلى التأنيس وتأنيسها بكل ما يقربها إلى العالم الروحاني المجرد عن علائق الأجسام ، وذلك بصرف {[69581]}القلب كله{[69582]} عن هذه الدنايا والتلبس بالأذكار والصلوات وجميع الأعمال الصالحات ، فإن ذلك هو المعين على اتصالها بعالمها العالي العزيز الغالي{[69583]} ، وأعون ما يكون على ذلك الحكمة ، وهي العدل في الأعمال والاقتصاد في الأقوال والأفعال ، فقال مستأنفاً الجواب عن تيسير السبيل وبنائه على الحنيفية السمحة بحيث صار لا مانع منه إلا يد القدرة { إن ربك } أي المدبر لأمرك على ما يكون إحساناً إليك ورفقاً بك وبأمتك { يعلم أنك تقوم } أي في الصلاة كما أمرت به أول السورة .

ولما كانت كثرة العمل ممدوحة وقلته بخلاف ذلك ، استعار للأقل قوله-{[69584]} : { أدنى } أي{[69585]} زماناً أقل ، والأدنى{[69586]} مشترك بين الأقرب ، والأدون للأنزل{[69587]} رتبة لأن كلاًّ منهما{[69588]} يلزم منه قلة المسافة { من ثلثي الّيل } في بعض الليالي { ونصفه وثلثه } أي{[69589]} وأدنى من كل منهما في بعض الليالي - هذا على قراءة الجماعة ، والمعنى ، على قراءة ابن كثير والكوفيين بالنصب تعيين النصف والثلث الداخل تحت الأدنى{[69590]} من الثلثين ، وهو على القراءتين مطابق لما وقع التخيير فيه في أول السورة بين قيام النصف بتمامه أو الناقص منه وهو الثلث أو الزائد عليه وهو الثلثان ، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع .

ولما ذكر سبحانه قيامه صلى الله عليه وسلم ، أتبعه قيام أتباعه ، فقال عاطفاً على الضمير المستكن{[69591]} في تقوم وحسنه الفصل : { وطائفة } أي ويقوم كذلك جماعة فيها أهلية التحلق بإقبالهم{[69592]} عليك{[69593]} وإقبال بعضهم على بعض . ولما {[69594]}كانت العادة أن{[69595]} الصاحب ربما أطلق على-{[69596]} من مع الإنسان بقوله دون قلبه عدل إلى قوله : { من الذين معك } أي بأقوالهم وأفعالهم ، أي على الإسلام{[69597]} ، وكأنه اختار هذا دون أن يقول من المسلمين لأنه يفهم أن طائفة لم تقم بهذا{[69598]} القيام{[69599]} فلم يرد{[69600]} أن يسميهم مسلمين ، والمعية أعم .

ولما كان القيام -{[69601]} على هذا التفاوت مع الاجتهاد في السبق في{[69602]} العبادة دالاً على عدم العلم بالمقادير ما هي عليه قال تعالى : { والله } أي تقومون هكذا لعدم{[69603]} علمكم بمقادير الساعات على التحرير والحال أن الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحده { يقدر } أي تقديراً عظيماً هو في غاية التحرير { الّيل والنهار } فيعلم كل دقيقة منهما على ما هي عليه لأنه خالقهما{[69604]} ولا يوجد شيء منهما إلا به

( ألا يعلم من خلق }{[69605]}[ الملك : 14 ] .

ولما علم من هذا المشقة عليهم في قيام الليل على هذا الوجه علماً وعملاً ، ترجم ذلك بقوله : { علم } أي الله سبحانه { أن لن تحصوه } أي تطيقوا التقدير علماً وعملاً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " استقيموا ولن تحصوا " { فتاب } أي فتسبب عن هذا العلم أنه سبحانه رجع بالنسخ عما كان أوجب { عليكم } بالترخيص لكم في ترك القيام المقدر أول السورة ، أي رفع التبعة{[69606]} عنكم في ترك القيام على ذلك التقدير الذي قدره كما رفع عن التائب ، وكأنه سماه توبة وإن لم يكن ثم معصية إشارة إلى أنه من شأنه لثقله أن يجر إلى المعصية .

ولما رفعه سبب عنه أمرهم بما يسهل عليهم فقال معبراً عن الصلاة بالقراءة لأنها أعظم أركانها إشارة إلى أن التهجد مستحب لا واجب : { فاقرءوا } أي في الصلاة أو غيرها في الليل والنهار { ما تيسر } أي سهل وهان إلى الغاية عليكم ولان وانقاد لكم { من القرآن } أي الكتاب الجامع لجميع ما ينفعكم ، قال القشيري : يقال : من خمس آيات إلى ما زاد ، ويقال : من عشر آيات إلى ما يزيد{[69607]} ، قال البغوي{[69608]} : قال قيس بن أبي حازم : صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما بالبصرة ، فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة ، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية . وقيل : إنه أمر بالقراءة مجردة إقامة لها-{[69609]} مقام ما كان يجب عليهم من الصلاة بزيادة في التخفيف ، ولذلك روى أبو داود{[69610]} وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه عن عبد لله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قام {[69611]}بعشر آيات{[69612]} لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين{[69613]} " قال المنذري : من سورة الملك إلى آخر القرآن ألف آية .

ولما كان هذا نسخاً لما كان واجباً من قيام الليل أول السورة لعلمه سبحانه بعدم إحصائه ، فسر ذلك العلم المجمل بعلم مفصل بياناً لحكمة أخرى للنسخ فقال : { علم أن } أي أنه { سيكون }{[69614]} يعني بتقدير لا بد لكم{[69615]} منه { منكم مرضى } جمع مريض ، وهذه السورة من أول ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم ، ففي هذا بشارة بأن أهل الإسلام يكثرون جداً .

ولما ذكر عذر المريض وبدأ به لكونه أعم ولا قدرة للمريض على دفعه ، أتبعه السفر للتجارة لأنه يليه في العموم ، فقال مبشراً مع كثرة أهل الإسلام باتساع الأرض لهم : { وآخرون } أي-{[69616]} غير المرضى { يضربون } أي يوقعون الضرب { في الأرض } أي يسافرون لأن الماشي بجد واجتهاد يضرب{[69617]} الأرض برجله ، ثم استأنف بيان علة الضرب بقوله : { يبتغون } أي يطلبون طلباً شديداً ، وأشار إلى سعة ما عند الله بكونه فوق أمانيهم فقال : { من فضل الله } أي بعض ما أوجده الملك الأعظم لعباده ولا حاجة {[69618]}به إليه{[69619]} بوجه من الربح في التجارة أو تعلم العلم { وآخرون } أي منكم أيها المسلمون { يقاتلون } أي يطلبون ويوقعون قتل أعداء الله ، ولذلك بينه بقوله : { في سبيل الله } أي ذلك القتل مظروف لطريق{[69620]} الملك الأعظم ليزول عن سلوكه المانع لقتل قطاع الطريق المعنوي والحسي ، وأظهر ولم يضمر تعظيماً للجهاد ولئلا يلبس بالعود إلى المتجر ، وهو ندب لنا من الله إلى رحمة العباد والنظر في أعذارهم ، فمن لا يرحم لا يرحم ، قال البغوي{[69621]} : روى إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : أيما رجل جلب شيئاً من مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ، ثم قرأ عبد الله { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون } [ المزمل : 20 ] الآية .

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه-{[69622]} قال : ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله .

ولما كانت هذه أعذاراً أخرى مقتضية للترخيص أو أسباباً لعدم الإحصاء ، رتب عليها الحكم السابق ، فقال مؤكداً للقراءة بياناً لمزيد عظمتها : { فاقرءوا } أي كل واحد منكم { ما تيسر } أي لكم { منه } أي القرآن ، أضمره{[69623]} إعلاماً بأنه عين السابق ، فصار الواجب قيام شيء من الليل على وجه التيسير ، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس . ولما كان صالحاً لأن يراد به الصلاة لكونه أعظم أركانها وأن يراد به-{[69624]} نفسه من غير صلاة زيادة في التخفيف ، قال ترجيحاً لإرادة هذا الثاني أو تنصيصاً على إرادة الأول : { وأقيموا } أي أوجدوا إقامة { الصلاة } المكتوبة بجميع الأمور التي تقوم بها من أركانها وشروطها ومقدماتها ومتمماتها وهيئاتها ومحسناتها ومكملاتها .

ولما ذكر بصفة الخالق التي هي أحد{[69625]} عمودي الإسلام البدني والمالي ، أتبعها العمود الآخر وهو الوصلة بين الخلائق فقال : { وآتوا } من طيب أموالكم التي أنعمنا بها عليكم { الزكاة } أي المفروضة ، ولما كان المراد الواجب المعروف ، أتبعه سائر الإنفاقات المفروضة والمندوبة ، فقال : { وأقرضوا الله } أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال التي منها{[69626]} الغنى المطلق ، من أبدانكم وأموالكم في أوقات صحتكم ويساركم { قرضاً حسناً } من نوافل الخيرات كلها في جميع شرعه برغبة تامة وعلى هيئة جميلة في ابتدائه وانتهائه وجميع أحواله ، فإنه محفوظ لكم عنده{[69627]} مبارك فيه ليرده عليكم مضاعفاً{[69628]} أحوج ما تكونون إليه .

ولما كان هذا الدين جامعاً ، وكان هذا القرآن حكيماً لأن منزله{[69629]} له صفات الكمال{[69630]} فأمر في هذه الجمل بأمهات الأعمال اهتماماً بها{[69631]} ، أتبع ذلك أمراً عاماً بجميع شرائع الدين فقال : { وما تقدموا } وحث على إخلاص النية بقوله : { لأنفسكم } أي خاصة سلفاً لأجل ما بعد الموت لا تقدرون على الأعمال { من خير } أي أيّ{[69632]} خير كان من عبادات {[69633]}البدن والمال{[69634]} { تجدوه } محفوظاً لكم { عند الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { هو } أي{[69635]} لا غيره{[69636]} { خيراً } أي لكم ، وجاز وقوع الفصل بين غير معرفتين لأن " أفعل{[69637]} من " كالمعرفة ، ولذلك يمنع دخول أداة التعريف{[69638]} عليها .

ولما كان كل-{[69639]} من عمل خيراً جوزي عليه سواء كان عند الموت {[69640]}أو في{[69641]} الحياة سواء كان كافراً أو مسلماً{[69642]} مخلصاً أو لا ، إن كان مخلصاً كان جزاؤه في الآخرة ، وإلا ففي الدنيا ، قال-{[69643]} : { وأعظم أجراً } أي مما لمن أوصى في مرض الموت ، وكان-{[69644]} بحيث يجازى به-{[69645]} في الدنيا .

ولما كان الإنسان إذا عمل ما يمدح عليه ولا سيما إذا{[69646]} كان المادح له ربه ربما أدركه الإعجاب ، بين له أنه لا يقدر بوجه على أن يقدر الله حق قدره ، فلا يزال مقصراً فلا يسعه إلا العفو بل الغفر فقال حاثاً على أن يكون ختام الأعمال بالاستغفار والاعتراف بالتقصير في خدمة المتكبر الجبار مشيراً إلى حالة انفصال روحه عن بدنه وأن صلاحها الراحة من كل شر : { واستغفروا الله } أي اطلبوا وأوجدوا ستر الملك الأعظم الذي لا تحيطون بمعرفته فكيف-{[69647]} بأداء حق خدمته لتقصيركم عيناً وأثراً بفعل ما يرضيه واجتناب ما يسخطه .

ولما علم من السياق ومن التعبير بالاسم الأعظم أنه سبحانه بالغ في العظمة إلى حد يؤيس من إجابته ، علل الأمر بقوله مؤكداً تقريباً لما يستبعده من يستحضر عظمته سبحانه وشدة{[69648]} انتقامه وقوة بطشه : { إن الله } وأظهر إعلاماً بأن{[69649]} صفاته لا تقصر آثارها على المستغفرين ولا على مطلق السائلين { غفور } أي بالغ الستر لأعيان الذنوب وآثارها حتى لا يكون عليها عتاب ولا عقاب { رحيم * } أي بالغ الإكرام بعد الستر إفضالاً وإحساناً وتشريفاً وامتناناً ،

ختام السورة:

وقد اشتملت هذه السورة على شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوتي من جوامع الكلم " اللهم-{[1]} أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح في دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها منقلبي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من {[2]}كل شر{[3]} " كما أشير إلى كل جملة منها في محلها ، ولقد رجع آخر السورة - بالترغيب في العمل وذكر جزائه - على أولها الأمر بالقيام بين يديه وبإشارة{[4]} الاستغفار إلى عظم المقام وإن جل العمل ودام وإن كان بالقيام في ظلام الليالي والناس نيام ، فسبحان من له هذا الكلام المعجز لسائر الأنام لإحاطته بالجلال والإكرام ، فسبحانه من إله جابر القلوب المنكسرة{[5]} .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[69579]:من ظ و م، وفي الأصل "و".
[69580]:من ظ و م، وفي الأصل: أردناه من.
[69581]:في م: القلب، وما بين الرقمين ساقط من ظ.
[69582]:في م: القلب، وما بين الرقمين ساقط من ظ.
[69583]:سقط من ظ.
[69584]:زيد من ظ و م.
[69585]:سقط من ظ و م.
[69586]:من ظ، وفي الأصل و م: أدنى.
[69587]:من ظ و م، وفي الأصل: لك انزل.
[69588]:من ظ و م، وفي الأصل: منها.
[69589]:زيد من ظ و م.
[69590]:زيدت الواو في الأصل ولم تكن في ظ و م فحذفناها.
[69591]:من ظ و م، وفي الأصل: المستتر.
[69592]:من ظ و م، وفي الأصل: بإقبالها.
[69593]:زيد في الأصل: بإقبالهم عليها، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69594]:في ظ و م: كان.
[69595]:في ظ و م: كان.
[69596]:زيد من م.
[69597]:من ظ و م، وفي الأصل: الإنسان.
[69598]:في ظ: هذا.
[69599]:في ظ: هذا.
[69600]:من ظ و م، وفي الأصل: فلم يراد.
[69601]:زيد من ظ و م.
[69602]:من م، وفي الأصل و ظ: على.
[69603]:من ظ و م، وفي الأصل: لعلم.
[69604]:من م، وفي الأصل و ظ: خلقهما.
[69605]:زيد في الأصل: إلى آخره، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69606]:من ظ و م، وفي الأصل: نسعته.
[69607]:من ظ و م، وفي الأصل: زاد.
[69608]:راجع المعالم 7/142.
[69609]:زيد من ظ و م.
[69610]:راجع السنن 1/205.
[69611]:من ظ و م والسنن، وفي الأصل: بآيات.
[69612]:من ظ و م والسنن، وفي الأصل: بآيات.
[69613]:من ظ و م والسنن، وفي الأصل: المقطين.
[69614]:زيد في الأصل: أي، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69615]:سقط من ظ و م.
[69616]:زيد من ظ و م.
[69617]:زيد في الأصل: في، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69618]:من ظ و م، وفي الأصل: له إليكم.
[69619]:من ظ و م، وفي الأصل: له إليكم.
[69620]:من م، وفي الأصل و ظ: بطريق.
[69621]:راجع معالم التنزيل 7/142.
[69622]:زيد من ظ و م.
[69623]:من ظ و م، وفي الأصل: مضى.
[69624]:زيد من ظ و م.
[69625]:زيد من ظ و م.
[69626]:من ظ و م، وفي الأصل: فيها.
[69627]:زيد في الأصل: وأنه، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69628]:زيد في الأصل: وأنتم، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69629]:زيد في الأصل: يكون، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69630]:زيد في الأصل: الكلام.
[69631]:زيد في الأصل: ثم، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69632]:سقط من ظ و م.
[69633]:من ظ و م وفي الأصل: المال والبدن.
[69634]:من ظ و م وفي الأصل: المال والبدن.
[69635]:زيد في الأصل: الله تعالى، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69636]:زيد في الأصل: يدخر لكم، ولم تكن الزيادة في ظ و م فحذفناها.
[69637]:من م، وفي الأصل، الأفعال، وفي ظ: أفعال.
[69638]:من ظ و م، وفي الأصل: الصرف.
[69639]:زيد من ظ و م.
[69640]:من ظ و م، وفي الأصل: أم.
[69641]:من ظ و م، وفي الأصل: أم.
[69642]:من ظ و م،وفي الأصل: المسلم.
[69643]:زيد من ظ و م .
[69644]:زيد من ظ و م.
[69645]:زيد من ظ و م.
[69646]:في م: أن، والعبارة من هنا بما فيها هذه الكلمة ساقطة من ظ إلى "وجه على".
[69647]:زيد من ظ و م.
[69648]:من ظ و م، وفي الأصل قدرة.
[69649]:من ظ و م، وفي الأصل: أن.