أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ} (22)

ما أصاب من مصيبة في الأرض كجدب وعاهة ولا في أنفسكم كمرض وآفة إلا في كتاب إلا مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى من قبل أن نبرأها نخلقها والضمير لل مصيبة أو الأرض أو للأنفس إن ذلك أي إثباته في كتاب على الله يسير لاستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ} (22)

لما جرى ذكر الجهاد آنفاً بقوله : { لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } [ الحديد : 10 ] وقوله : { والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } [ الحديد : 19 ] على الوجهين المتقدمين هنالك ، وجرى ذكر الدنيا في قوله : { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغروب } [ الحديد : 20 ] وكان ذلك كله مما تحدُث فيه المصائب من قتل وقطع وأسر في الجهاد ، ومن كوارث تعرض في الحياة من فقد وألم واحتياج ، وجرى مَثَل الحياة الدنيا بالنّبات ، وكان ذلك ما يعرض له القحط والجوائح ، أُتبع ذلك بتسلية المسلمين على ما يصيبهم لأن المسلمين كانوا قد تخلقوا بآداب الدنيا من قبلُ فربما لحقهم ضر أو رزء خارج عن نطاق قدرتهم وَكسبهم فأعلموا أن ذلك مما اقتضاه ارتباط أسباب الحوادث بعضها ببعض على ما سيرها عليه نظام جميع الكائنات في هذا العالم كما أشار إليه قوله تعالى : { إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } [ الحديد : 22 ] كما ستعلمه ، فلم يملكهم الغم والحزن ، وانتقلوا عن ذلك إلى الإقبال على ما يهمهم من الأمور ولم يلهمهم التحرق على ما فات على نحو ما وقع في قوله : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } [ البقرة : 154 156 ] ، ولعل المسلمين قد أصابتهم شدة في إحدى المغازي أو حبس مطر أو نحو ذلكم مما كان سبب نزول هذه الآية .

و ( ما ) نافية و ( من ) زائدة في النفي للدلالة على نفي الجنس قصداً للعموم .

ومفعول { أصاب } محذوف تقديره : ما أصابكم أو ما أصاب أحداً .

وقوله : { في الأرض } إشارة إلى المصائب العامة كالقحط وفيضان السيول وموتان الأنعام وتلف الأموال .

وقوله : { ولا في أنفسكم } إشارة إلى المصائب اللاحقة لذوات الناس من الأمراض وقطع الأعضاء والأسر في الحرب وموت الأحباب وموت المرء نفسه فقد سماه الله مصيبة في قوله : { فأصابتكم مصيبة الموت } [ المائدة : 106 ] . وتكرير حرف النفي في المعطوف على المنفي في قوله : { ولا في أنفسكم } لقصد الاهتمام بذلك المذكور بخصوصه فإن المصائب الخاصة بالنفس أشد وقعاً على المصاب ، فإن المصائب العامة إذا اخْطأَتْه فإنما يتأثر لها تأثراً بالتعقل لا بالحسّ فلا تدوم ملاحظة النفس إياه .

والاستثناء في قوله : { إلا في كتاب } استثناء من أحوال منفية ب ( ما ) ، إذ التقدير : ما أصاب من مصيبة في الأرض كائنة في حال إلا في حال كونها مكتوبة في كتاب ، أي مثبتة فيه .

والكتاب : مجاز عن علم الله تعالى ووجه المشابهة عدم قبوله التبديل والتغيير والتخلف ، قال الحارث بن حلزة :

حذر الجور والتطاخي وهل *** ينْقض ما في المهارق الأهواء

ومن ذلك علمه وتقديره لأسباب حصولها ووقت خلقها وترتب آثارها والقصر المفاد ب ( إلاّ ) قصر موصوف على صفة وهو قصر إضافي ، أي إلا في حال كونها في كتاب دون عدم سبق تقديرها في علم الله ردّاً على اعتقاد المشركين والمنافقين المذكور في قوله تعالى : { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } [ آل عمران : 156 ] وقوله : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } [ آل عمران : 168 ] . وهذا الكلام يجمع الإِشارة إلى ما قدمناه من أن الله تعالى وضع نظام هذا العالم على أن تترتب المسببات على أسبابها ، وقدر ذلك وعلمه ، وهذا مثل قوله : { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } [ فاطر : 11 ] ونحو ذلك .

والبرءُ : بفتح الباء : الخَلْق ومن أسمائه تعالى البارىء ، وضمير النصب في { نبرأها } عائد إلى الأرض أو إلى الأنفس .

وجملة { إن ذلك على الله يسير } ردّ على أهل الضلال من المشركين وبعض أهل الكتاب الذين لا يثبتون لله عموم العلم ويجوّزون عليه البَداء وتمشّي الحِيَل ، ولأجل قصد الرد على المنكرين أكد الخبر ب ( إنّ ) .