مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ} (22)

قوله تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } قال الزجاج : إنه تعالى لما قال : { سابقوا إلى مغفرة } بين أن المؤدي إلى الجنة والنار لا يكون إلا بقضاء وقدر ، فقال : { ما أصاب من مصيبة } والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله ، والمصيبة في الأرض هي قحط المطر ، وقلة النبات ، ونقص الثمار ، وغلاء الأسعار ، وتتابع الجوع ، والمصيبة في الأنفس فيها قولان : ( الأول ) : أنها هي : الأمراض ، والفقر ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود عليها ( والثاني ) : أنها تتناول الخير والشر أجمع لقوله بعد ذلك : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } ثم قال : { إلا في كتاب } يعني مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ وفيه مسائل :

المسألة الأولى : هذه الآية دالة على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللوح المحفوظ . قال المتكلمون : وإنما كتب كل ذلك لوجوه ( أحدها ) : تستدل الملائكة بذلك المكتوب على كونه سبحانه وتعالى عالما بجميع الأشياء قبل وقوعها ( وثانيها ) : ليعرفوا حكمة الله فإنه تعالى مع علمه بأنهم يقدمون على تلك المعاصي خلقهم ورزقهم ( وثالثها ) : ليحذروا من أمثال تلك المعاصي ( ورابعها ) : ليشكروا الله تعالى على توفيقه إياهم على الطاعات وعصمته إياهم من المعاصي . وقالت الحكماء : إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبرات أمرا ، وهم المقسمات أمرا ، إنما هي المبادئ لحدوث الحوادث في هذا العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية ، فتصوراتها لانسياق تلك الأسباب إلى المسببات هو المراد من قوله تعالى : { إلا في كتاب } .

المسألة الثانية : استدل جمهور أهل التوحيد بهذه الآية على أنه تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها خلافا لهشام بن الحكم ، ووجه الاستدلال أنه تعالى لما كتبها في الكتاب قبل وقوعها وجاءت مطابقة لذلك الكتاب علمنا أنه تعالى عالما بها بأسرها .

المسألة الثالثة : قوله : { ولا في أنفسكم } يتناول جميع مصائب الأنفس فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم ، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبة في اللوح المحفوظ ، ومثبتة في علم الله تعالى ، فكان الامتناع من تلك الأعمال محالا ، لأن علم الله بوجودها مناف لعدمها ، والجمع بين المتنافيين محال ، فلما حصل العلم بوجودها ، وهذا العلم ممتنع الزوال كان الجمع بين عدمها وبين علم الله بوجودها محالا .

المسألة الرابعة : أنه تعالى لم يقل : إن جميع الحوادث مكتوبة في الكتاب ، لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية ، فإثباتها في الكتاب محال ، وأيضا خصص ذلك بالأرض والأنفس وما أدخل فيها أحوال السماوات ، وأيضا خصص ذلك بمصائب الأرض والأنفس لا بسعادات الأرض والأنفس ، وفي كل هذه الرموز إشارات وأسرار ، أما قوله : { من قبل أن نبرأها } فقد اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : من قبل أن نخلق هذه المصائب ، وقال بعضهم : بل المراد الأنفس ، وقال آخرون : بل المراد نفس الأرض ، والكل محتمل لأن ذكر الكل قد تقدم ، وإن كان الأقرب نفس المصيبة لأنها هي المقصود ، وقال آخرون : المراد من قبل أن نبرأ المخلوقات ، والمخلوقات وإن لم يتقدم ذكرها إلا أنها لظهورها يجوز عود الضمير إليها كما في قوله : { إنا أنزلناه } .

ثم قال تعالى : { إن ذلك على الله يسير } وفيه قولان : ( أحدهما ) : إن حفظ ذلك على الله هين ، ( والثاني ) : إن إثبات ذلك على كثرته في الكتاب يسير على الله وإن كان عسيرا على العباد ، ونظير هذه الآية قوله : { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير } .