إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه استعار الأدنى للأقل لأن الأقرب إلى الشيء أقل بعدا منه وقرأ ابن كثير والكوفيون ونصفه وثلثه بالنصب عطفا على أدنى وطائفة من الذين معك ويقوم ذلك جماعة من أصحابك والله يقدر الليل والنهار لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلا الله تعالى فإن تقديم اسمه مبتدأ مبنيا عليه يقدر يشعر بالاختصاص ويؤيده قوله علم أن لن تحصوه أي لن تحصوا تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات فتاب عليكم بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة فيه كما رفع التبعة عن التائب فاقرؤوا ما تيسر من القرآن فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل عبر عن الصلاة بالقرآن كما عبر عنها بسائر أركانها قيل كان التهجد واجبا على التخيير المذكور فعسر عليهم القيام به فنسخ به ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس أو فاقرؤوا القرآن بعينه كيفما تيسر عليكم علم أن سيكون منكم مرضى استئناف يبين حكمة أخرى مقتضية الترخيص والتخفيف ولذلك كرر الحكم مرتبا عليه وقال وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله والضرب في الأرض ابتغاء للفضل المسافرة للتجارة وتحصيل العلم وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة المفروضة وآتو الزكاة الواجبة وأقرضوا الله قرضا حسنا يريد به الأمر في سائر الانفاقات في سبل الخيرات أو بأداء الزكاة على أحسن وجه والترغيب فيه بوعد العوض كما صرح به في قوله وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت أو من متاع الدنيا و خيرا ثاني مفعولي تجدوه وهو تأكيد أو فصل لأن أفعل من كالمعرفة ولذلك يمتنع من حرف التعريف وقرئ هو خير على الابتداء والخبر واستغفروا الله في مجامع أحوالكم فإن الإنسان لا يخلو من تفريط إن الله غفور رحيم .
وقوله تعالى : { إن ربك يعلم } الآية نزلت تخفيفاً لما كان استمر استعماله من قيام الليل إما على الوجوب أو على الندب حسب الخلاف الذي ذكرناه ، ومعنى الآية : أن الله تعالى يعلم أنك تقوم أنت وغيرك من أمتك قياماً مختلفاً فيه ، مرة يكثر ومرة يقل ، ومرة أدنى من الثلثين ، ومرة أدنى من الثلث ، وذلك لعدم تحصيل البشر لمقادير الزمن مع عدم النوم ، وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى ، وأما البشر فلا يحصي ذلك فتاب الله عليهم ، أي رجع بهم من الثقل إلى الجنة وأمرهم بقراءة { ما تيسر } ، ونحو هذا يعطي عبارة الفراء ومنذر فإنهما قالا { تحصوه } تحفظوه ، وهذا التأويل هو على قراءة من قرأ «ونصفِه وثلثِ » بالخفض عطفاً على الثلثين ، وهي قراءة أبي عمرو ونافع وابن عامر . وأما من قرأ «ونصفَه وثلثَه » بالنصب عطفاً على { أدنى } وهي قراءة باقي السبعة ، فالمعنى عنده آخر ، وذلك أن الله تعالى قرر أنهم يقدرون الزمان على نحو ما أمر به في قوله { نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه } [ المزمل : 3-4 ] ، فلم يبق إلا أن يكون قوله { لن تحصوه } [ بمعنى ]{[11402]} لن تستطيعوا قيامه لكثرته وشدته فخفف الله عنكم فضلاً منه لا لقلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الوقت ، ونحو هذا تعطي عبارة الحسن وابن جبير { تحصوه } تطيعوه ، وقرأ جمهور القراء والناس «وثلُثه » بضم اللام ، وقرأ ابن كثير في رواية شبل عنه : «وثلْثه » بسكون اللام . وقوله تعالى : { فاقرأوا ما تيسر من القرآن } إباحة ، هذا قول الجمهور ، وقال ابن جبير وجماعة هو فرض لا بد منه ولو خمسين آية ، وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض ، ولو قدر حلب شاة ، إلا أن الحسن قال : من قرأ مائة آية لم يحاجه القرآن ، واستحسن هذا جماعة من العلماء ، قال بعضهم : والركعتان بعد العتمة مع الوتر مدخلتان في حكم امتثال هذا الأمر ، ومن زاد زاده الله ثواباً . و { أن } في قوله تعالى : { علم أن } مخففة من الثقيلة . والتقدير أنه يكون ، فجاءت السين عوضاً من المحذوف ، وكذلك جاءت لا في قول أبي محجن : [ الطويل ]
ولا تدفنني بالفلاة فإنني . . . أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها{[11403]}
والضرب في الأرض : هو السفر للتجارة ، وضرب الأرض هو المشي للتبرز والغائط{[11404]} .
فذكر الله تعالى أعذار بني آدم التي هي حائلة بينهم وبين قيام الليل وهي المرض والسفر في تجارة أو غزو ، فخفف عنه القيام لها . وفي هذه الآية فضيلة الضرب في الأرض بل تجارة وسوق لها مع سفر الجهاد ، وقال عبد الله بن عمر : أحب الموت إليَّ بعد القتل في سبيل الله أن أموت بين شعبتي رحلي{[11405]} أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله ، ثم كرر الأمر . بقراءة ما تيسر منه تأكيداً و { الصلاة } و { الزكاة } هما المفروضتان ، ومن قال إن القيام بالليل غير واجب قال معنى الآية خذوا من هذا الثقل بما تيسر وحافظوا على فرائضكم ، ومن قال إن شيئاً من القيام واجب قال : قرنه الله بالفرائض لأنه فرض . وإقراض الله تعالى : هو إسلاف العمل الصالح عنده . وقرأ جمهور الناس «هو خيراً » على أن يكون هو فصلاً ، وقرأ محمد بن السميفع وأبو السمال «هو خيرُ » بالرفع على أن يكون { هو } ابتداء ، و «خير » خبره والجملة تسد مسد المفعول الثاني ل { تجدوه } . ثم أمر تعالى بالاستغفار وأوجب لنفسه صفة الغفران لا إله غيره ، قال بعض العلماء فالاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية ومن قوله تعالى : { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون }{[11406]} [ الذاريات : 17 ] .
قال القاضي أبو محمد : وعهدت أبي رحمه الله يستغفر إثر كل مكتوبة ثلاثاً بعقب السلام ويأثر{[11407]} في ذلك حديثاً ، فكأن هذا الاستغفار من التقصير وتفلت الفكر أثناء الصلاة ، وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح .
نجز تفسير سورة «المزمل » بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد وآله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن ربك يعلم أنك تقوم} إلى الصلاة.
{من ثلثي الليل} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يقومون في أول الإسلام من الليل نصفه وثلثه، وهذا من قبل أن تفرض الصلوات الخمس، فقاموا سنة فشق ذلك عليهم، فنزلت الرخصة بعد ذلك... فذلك قوله {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك} من المؤمنين يقومون نصفه وثلثه، ويقومون وينامون.
{والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه} يعني قيام ثلثي الليل الأول، ولا نصف الليل، ولا ثلث الليل،
{فتاب عليكم} يعني فتجاوز عنكم في التخفيف بعد قوله: {قم الليل إلا قليلا} {وطائفة من الذين معك}.
{فاقرءوا ما تيسر من القرآن} عليكم في الصلاة.
{علم أن سيكون منكم مرضى} فلا يطيقون قيام الله.
{وآخرون يضربون في الأرض} تجارا.
{يبتغون من فضل الله} يعني يطلبون من فضل الله الرزق.
{وآخرون يقاتلون في سبيل الله} ولا يطيقون قيام الليل، فهذه رخصة من الله عز وجل لهم بعد التشديد.
{فاقرءوا ما تيسر} عليكم {منه} يعني من القرآن فلم يوقت شيئا، في صلواتكم الخمس منه.
{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} يعني وأتموا الصلوات الخمس، وأعطوا الزكاة المفروضة من أموالكم، فنسخ قيام الليل على المؤمنين، وثبت قيام الليل على النبي صلى الله عليه وسلم.
{وأقرضوا الله} يعني التطوع {قرضا حسنا} يعني بالحسن طيبة بها نفسه يحتسبها تطوعا بعد الفريضة.
{وما تقدموا لأنفسكم من خير} يعني من صدقة فريضة كانت أو تطوعا.
{تجدوه عند الله هو خيرا} ثوابا عند الله في التقديم، هو خيرا.
{وأعظم أجرا}: أفضل مما أعطيتم من أموالكم وأعظم أجرا يعني وأكثر خيرا، وأفضل خيرا في الآخرة.
{إن الله غفور} لكم عند الاستغفار إذا استغفرتموه {رحيم} حين رخص لكم بالتوبة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنكَ تَقُومُ أدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللّيْل" يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم أقرب من ثلثي الليل مصليا، ونصفه وثلثه
اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة بالخفض ونصفِه وثلثِه بمعنى: وأدنى من نصفه وثلثه، إنكم لم تطيقوا العمل بما افترض عليكم من قيام الليل، فقوموا أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه.
وقرأ ذلك بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء الكوفة بالنصب، بمعنى: إنك تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفَه وثلثَه.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
" وَطائِفَةٌ مِنَ الّذِينَ مَعَكَ" يعني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا مؤمنين بالله حين فرض عليهم قيام الليل.
" وَاللّهُ يُقَدّرُ الليْلَ والنهارَ" بالساعات والأوقات.
"عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ": علم ربكم أيها القوم الذين فرض عليهم قيام الليل أن لن تطيقوا قيامه "فَتابَ عَلَيْكُمْ" إذ عجزتم وضعفتم عنه، ورجع بكم إلى التخفيف عنكم...
"فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنَ القُرْآنِ": فاقرؤوا من الليل ما تيسر لكم من القرآن في صلاتكم، وهذا تخفيف من الله عزّ وجلّ عن عباده فرضه الذي كان فرض عليهم بقوله: "قُمِ اللّيْلَ إلاّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً".
عن أبي رجاء محمد، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه، فلا يقوم به، إنما يصلي المكتوبة، قال: يتوسد القرآن، لعن الله ذاك، قال الله للعبد الصالح: "وَإنّهُ لَذُو عِلْمِ لمَا عَلّمْناهُ"، "وعُلّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ"، قلت: يا أبا سعيد قال الله: "فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنَ القُرْآنِ" قال: نعم، ولو خمسين آية.
عن السديّ، في قوله: "فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنَ القُرْآنِ" قال: مئة آية.
عن الحسن، قال: من قرأ مئة آية في ليلة لم يحاجه القرآن.
عن كعب، قال: من قرأ في ليلة مئة، كُتب من العابدين.
" عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وآخَرُونَ يَضْربُونَ فِي الأرْض يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ": علم ربكم أيها المؤمنون أن سيكون منكم أهل مرض قد أضعفه المرض عن قيام الليل.
"وآخَرُونَ يَضْربُونَ فِي الأرْضِ" في سفر. "يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ" في تجارة قد سافروا لطلب المعاش فأعجزهم، فأضعفهم أيضا عن قيام الليل.
"وآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ": وآخرون أيضا منكم يجاهدون العدوّ فيقاتلونهم في نُصرة دين الله، فرحمكم الله فخفف عنكم، ووضع عنكم فرض قيام الليل "فاقْرَءُوا ما تَيَسّرَ مِنْهُ": فاقرؤوا الآن إذ خفف ذلك عنكم من الليل في صلاتكم ما تيسّر من القرآن. والهاء في قوله «منه» من ذكر القرآن.
"وأقِيمُوا الصّلاةَ": وأقيموا المفروضة وهي الصلوات الخمس في اليوم والليل.
"وآتُوا الزّكاةَ": وأعطوا الزكاة المفروضة في أموالكم أهلها.
" وأقْرِضُوا اللّهَ قَرْضا حَسَنا": وانفقوا في سبيل الله من أموالكم.
قال ابن زيد في قوله: "وأقْرِضُوا اللّهَ قَرْضَا حَسَنا": القرض: النوافل سوى الزكاة.
" وَما تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْرا وأعْظَمَ أجْرا": وما تقدّموا أيها المؤمنون لأنفسكم في دار الدنيا من صدقة أو نفقة تنفقونها في سبيل الله، أو غير ذلك من نفقة في وجوه الخير، أو عمل بطاعة الله من صلاة أو صيام أو حجّ، أو غير ذلك من أعمال الخير في طلب ما عند الله، تجدوه عند الله يوم القيامة في معادكم، هو خيرا لكم مما قدّمتم في الدنيا، وأعظم منه ثوابا: أي ثوابه أعظم من ذلك الذي قدّمتموه لو لم تكونوا قدّمتموه.
"وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ": وسلوا الله غفران ذنوبكم يصفح لكم عنها.
"إن اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ": إن الله ذو مغفرة لذنوب من تاب من عباده من ذنوبه، وذو رحمة أن يعاقبهم عليها من بعد توبتهم منها.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: فتاب عليكم من تقصيركم فيما مضى، فاقرؤوا في المستقبل ما تيسر. الثاني: فخفف عنكم.
{فاقْرءُوا ما تيسّر مِنَ القُرآنِ} فيه وجهان:
أحدهما: فصلّوا ما تيسّر من الصلاة، فعبر عن الصلاة بالقرآن لما يتضمنها من القرآن. فعلى هذا يحتمل في المراد بما تيسر من الصلاة وجهان:
أحدهما: ما يتطوع به من نوافله لأن الفرض المقدر لا يؤمر فيه بما تيسر.
الثاني: أنه محمول على فروض الصلوات الخمس لانتقال الناس من قيام الليل إليها، ويكون قوله "ما تيسر " محمولاً على صفة الأداء في القوة والضعف، والصحة والمرض، ولا يكون محمولاً على العدد المقدر شرعاً.
{عَلِم أنْ سيكونُ منكم مرْضَى} ذكر الله أسباب التخفيف، فذكر منها المرض لأنه يُعجز.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَّن تُحْصُوهُ} أي علم أنه لا يصح منكم ضبط الأوقات ولا يتأتى حسابها بالتعديل والتسوية، إلا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط: وذلك شاق عليكم بالغ منكم {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدّر. كقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالآن باشروهن} [البقرة: 187] والمعنى: أنه رفع التبعة في تركه عنكم، كما يرفع التبعة عن التائب. وعبر عن الصلاة بالقراءة؛ لأنها بعض أركانها، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود يريد: فصلوا ما تيسر عليكم.
{وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} يجوز أن يريد: سائر الصدقات وأن يريد: أداء الزكاة على أحسن وجه: من إخراج أطيب المال وأعوده على الفقراء، ومراعاة النية وابتغاء وجه الله، والصرف إلى المستحق، وأن يريد: كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ومعنى الآية: أن الله تعالى يعلم أنك تقوم أنت وغيرك من أمتك قياماً مختلفاً فيه، مرة يكثر ومرة يقل، ومرة أدنى من الثلثين، ومرة أدنى من الثلث، وذلك لعدم تحصيل البشر لمقادير الزمن مع عدم النوم، وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى، وأما البشر فلا يحصي ذلك فتاب الله عليهم، أي رجع بهم من الثقل إلى الجنة وأمرهم بقراءة {ما تيسر}.
{فاقرءوا ما تيسر من القرآن} إباحة، هذا قول الجمهور، وقال ابن جبير وجماعة: هو فرض لا بد منه ولو خمسين آية، وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض، ولو قدر حلب شاة. واستحسن هذا جماعة من العلماء، قال بعضهم: والركعتان بعد العتمة مع الوتر مدخلتان في حكم امتثال هذا الأمر، ومن زاد زاده الله ثواباً.
والضرب في الأرض: هو السفر للتجارة، وضرب الأرض هو المشي.
فذكر الله تعالى أعذار بني آدم التي هي حائلة بينهم وبين قيام الليل وهي المرض والسفر في تجارة أو غزو، فخفف عنه القيام لها.
وفي هذه الآية فضيلة الضرب في الأرض بل تجارة وسَوْق لها مع سفر الجهاد، وقال عبد الله بن عمر: أحب الموت إليَّ بعد القتل في سبيل الله أن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله، ثم كرر الأمر. بقراءة ما تيسر منه تأكيداً و {الصلاة} و {الزكاة} هما المفروضتان، ومن قال إن القيام بالليل غير واجب قال معنى الآية خذوا من هذا الثقل بما تيسر وحافظوا على فرائضكم، ومن قال إن شيئاً من القيام واجب قال: قرنه الله بالفرائض لأنه فرض.
وإقراض الله تعالى: هو إسلاف العمل الصالح عنده.
ثم أمر تعالى بالاستغفار وأوجب لنفسه صفة الغفران لا إله غيره،
قال بعض العلماء فالاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية ومن قوله تعالى: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 17].
وعهدت أبي رحمه الله يستغفر إثر كل مكتوبة ثلاثاً بعقب السلام، فكأن هذا الاستغفار من التقصير وتفلت الفكر أثناء الصلاة، وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت كثرة العمل ممدوحة وقلته بخلاف ذلك، استعار للأقل قوله: {أدنى} أي زماناً أقل، والأدنى مشترك بين الأقرب، والأدون للأنزل رتبة لأن كلاًّ منهما يلزم منه قلة المسافة {من ثلثي الّيل} في بعض الليالي {ونصفه وثلثه} أي وأدنى من كل منهما في بعض الليالي -هذا على قراءة الجماعة، والمعنى، على قراءة ابن كثير والكوفيين بالنصب تعيين النصف والثلث الداخل تحت الأدنى من الثلثين، وهو على القراءتين مطابق لما وقع التخيير فيه في أول السورة بين قيام النصف بتمامه أو الناقص منه وهو الثلث أو الزائد عليه وهو الثلثان، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع.
ولما ذكر سبحانه قيامه صلى الله عليه وسلم، أتبعه قيام أتباعه، فقال عاطفاً على الضمير المستكن في تقوم وحسنه الفصل: {وطائفة} أي ويقوم كذلك جماعة فيها أهلية التحلق بإقبالهم عليك وإقبال بعضهم على بعض. ولما كانت العادة أن الصاحب ربما أطلق على من مع الإنسان بقوله دون قلبه عدل إلى قوله: {من الذين معك} أي بأقوالهم وأفعالهم، أي على الإسلام، وكأنه اختار هذا دون أن يقول من المسلمين لأنه يفهم أن طائفة لم تقم بهذا القيام فلم يرد أن يسميهم مسلمين، والمعية أعم.
ولما كان القيام على هذا التفاوت مع الاجتهاد في السبق في العبادة دالاً على عدم العلم بالمقادير ما هي عليه قال تعالى: {والله} أي تقومون هكذا لعدم علمكم بمقادير الساعات على التحرير والحال أن الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحده {يقدر} أي تقديراً عظيماً هو في غاية التحرير {الّيل والنهار} فيعلم كل دقيقة منهما على ما هي عليه لأنه خالقهما ولا يوجد شيء منهما إلا به
(ألا يعلم من خلق} [الملك: 14].
ولما علم من هذا المشقة عليهم في قيام الليل على هذا الوجه علماً وعملاً، ترجم ذلك بقوله: {علم} أي الله سبحانه {أن لن تحصوه} أي تطيقوا التقدير علماً وعملاً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "استقيموا ولن تحصوا " {فتاب} أي فتسبب عن هذا العلم أنه سبحانه رجع بالنسخ عما كان أوجب {عليكم} بالترخيص لكم في ترك القيام المقدر أول السورة، أي رفع التبعة عنكم في ترك القيام على ذلك التقدير الذي قدره كما رفع عن التائب، وكأنه سماه توبة وإن لم يكن ثم معصية إشارة إلى أنه من شأنه لثقله أن يجر إلى المعصية.
ولما رفعه سبب عنه أمرهم بما يسهل عليهم فقال معبراً عن الصلاة بالقراءة لأنها أعظم أركانها إشارة إلى أن التهجد مستحب لا واجب: {فاقرءوا} أي في الصلاة أو غيرها في الليل والنهار {ما تيسر} أي سهل وهان إلى الغاية عليكم ولان وانقاد لكم {من القرآن} أي الكتاب الجامع لجميع ما ينفعكم، قال قيس بن أبي حازم: صليت خلف ابن عباس رضي الله عنهما بالبصرة، فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية. وقيل: إنه أمر بالقراءة مجردة إقامة لها- مقام ما كان يجب عليهم من الصلاة بزيادة في التخفيف، ولذلك روى أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه عن عبد لله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين " قال المنذري: من سورة الملك إلى آخر القرآن ألف آية.
ولما كان هذا نسخاً لما كان واجباً من قيام الليل أول السورة لعلمه سبحانه بعدم إحصائه، فسر ذلك العلم المجمل بعلم مفصل بياناً لحكمة أخرى للنسخ فقال: {علم أن} أي أنه {سيكون} يعني بتقدير لا بد لكم منه {منكم مرضى} جمع مريض، وهذه السورة من أول ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم، ففي هذا بشارة بأن أهل الإسلام يكثرون جداً.
ولما ذكر عذر المريض وبدأ به لكونه أعم ولا قدرة للمريض على دفعه، أتبعه السفر للتجارة لأنه يليه في العموم، فقال مبشراً مع كثرة أهل الإسلام باتساع الأرض لهم: {وآخرون} أي غير المرضى {يضربون} أي يوقعون الضرب {في الأرض} أي يسافرون لأن الماشي بجد واجتهاد يضرب الأرض برجله، ثم استأنف بيان علة الضرب بقوله: {يبتغون} أي يطلبون طلباً شديداً، وأشار إلى سعة ما عند الله بكونه فوق أمانيهم فقال: {من فضل الله} أي بعض ما أوجده الملك الأعظم لعباده ولا حاجة به إليه بوجه من الربح في التجارة أو تعلم العلم {وآخرون} أي منكم أيها المسلمون {يقاتلون} أي يطلبون ويوقعون قتل أعداء الله، ولذلك بينه بقوله: {في سبيل الله} أي ذلك القتل مظروف لطريق الملك الأعظم ليزول عن سلوكه المانع لقتل قطاع الطريق المعنوي والحسي، وأظهر ولم يضمر تعظيماً للجهاد ولئلا يلبس بالعود إلى المتجر، وهو ندب لنا من الله إلى رحمة العباد والنظر في أعذارهم، فمن لا يرحم لا يرحم، قال البغوي: روى إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أيما رجل جلب شيئاً من مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء، ثم قرأ عبد الله {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون} [المزمل: 20] الآية.
ولما كانت هذه أعذاراً أخرى مقتضية للترخيص أو أسباباً لعدم الإحصاء، رتب عليها الحكم السابق، فقال مؤكداً للقراءة بياناً لمزيد عظمتها: {فاقرءوا} أي كل واحد منكم {ما تيسر} أي لكم {منه} أي القرآن، أضمره إعلاماً بأنه عين السابق، فصار الواجب قيام شيء من الليل على وجه التيسير، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس. ولما كان صالحاً لأن يراد به الصلاة لكونه أعظم أركانها وأن يراد به نفسه من غير صلاة زيادة في التخفيف، قال ترجيحاً لإرادة هذا الثاني أو تنصيصاً على إرادة الأول: {وأقيموا} أي أوجدوا إقامة {الصلاة} المكتوبة بجميع الأمور التي تقوم بها من أركانها وشروطها ومقدماتها ومتمماتها وهيئاتها ومحسناتها ومكملاتها.
ولما ذكر بصفة الخالق التي هي أحد عمودي الإسلام البدني والمالي، أتبعها العمود الآخر وهو الوصلة بين الخلائق فقال: {وآتوا} من طيب أموالكم التي أنعمنا بها عليكم {الزكاة} أي المفروضة، ولما كان المراد الواجب المعروف، أتبعه سائر الإنفاقات المفروضة والمندوبة، فقال: {وأقرضوا الله} أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال التي منها الغنى المطلق، من أبدانكم وأموالكم في أوقات صحتكم ويساركم {قرضاً حسناً} من نوافل الخيرات كلها في جميع شرعه برغبة تامة وعلى هيئة جميلة في ابتدائه وانتهائه وجميع أحواله، فإنه محفوظ لكم عنده مبارك فيه ليرده عليكم مضاعفاً أحوج ما تكونون إليه.
ولما كان هذا الدين جامعاً، وكان هذا القرآن حكيماً لأن منزله له صفات الكمال فأمر في هذه الجمل بأمهات الأعمال اهتماماً بها، أتبع ذلك أمراً عاماً بجميع شرائع الدين فقال: {وما تقدموا} وحث على إخلاص النية بقوله: {لأنفسكم} أي خاصة سلفاً لأجل ما بعد الموت لا تقدرون على الأعمال {من خير} أي أيّ خير كان من عبادات البدن والمال {تجدوه} محفوظاً لكم {عند الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {هو} أي لا غيره {خيراً} أي لكم...
ولما كان كل من عمل خيراً جوزي عليه سواء كان عند الموت أو في الحياة سواء كان كافراً أو مسلماً مخلصاً أو لا، إن كان مخلصاً كان جزاؤه في الآخرة، وإلا ففي الدنيا، قال: {وأعظم أجراً} أي مما لمن أوصى في مرض الموت، وكان بحيث يجازى به في الدنيا.
ولما كان الإنسان إذا عمل ما يمدح عليه ولا سيما إذا كان المادح له ربه ربما أدركه الإعجاب، بين له أنه لا يقدر بوجه على أن يقدر الله حق قدره، فلا يزال مقصراً فلا يسعه إلا العفو بل الغفر فقال حاثاً على أن يكون ختام الأعمال بالاستغفار والاعتراف بالتقصير في خدمة المتكبر الجبار مشيراً إلى حالة انفصال روحه عن بدنه وأن صلاحها الراحة من كل شر: {واستغفروا الله} أي اطلبوا وأوجدوا ستر الملك الأعظم الذي لا تحيطون بمعرفته فكيف- بأداء حق خدمته لتقصيركم عيناً وأثراً بفعل ما يرضيه واجتناب ما يسخطه.
ولما علم من السياق ومن التعبير بالاسم الأعظم أنه سبحانه بالغ في العظمة إلى حد يؤيس من إجابته، علل الأمر بقوله مؤكداً تقريباً لما يستبعده من يستحضر عظمته سبحانه وشدة انتقامه وقوة بطشه: {إن الله} وأظهر إعلاماً بأن صفاته لا تقصر آثارها على المستغفرين ولا على مطلق السائلين {غفور} أي بالغ الستر لأعيان الذنوب وآثارها حتى لا يكون عليها عتاب ولا عقاب {رحيم} أي بالغ الإكرام بعد الستر إفضالاً وإحساناً وتشريفاً وامتناناً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآن يجيء شطر السورة الثاني في آية واحدة طويلة، نزلت بعد مطلع السورة بعام على أرجح الأقوال:
إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وطائفة من الذين معك. والله يقدر الليل والنهار. علم أن لن تحصوه فتاب عليكم، فاقرأوا ما تيسر من القرآن. علم أن سيكون منكم مرضى. وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله. فاقرأوا ما تيسر منه، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأقرضوا الله قرضا حسنا، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا، واستغفروا الله، إن الله غفور رحيم..
إنها لمسة التخفيف الندية، تمسح على التعب والنصب والمشقة. ودعوة التيسير الإلهي على النبي والمؤمنين. وقد علم الله منه ومنهم خلوصهم له. وقد انتفخت أقدامهم من القيام الطويل للصلاة بقدر من القرآن كبير. وما كان الله يريد لنبيه أن يشقى بهذا القرآن وبالقيام. إنما كان يريد أن يعده للأمر العظيم الذي سيواجهه طوال ما بقي له من الحياة. هو والمجموعة القليلة من المؤمنين الذين قاموا معه.
وفي الحديث مودة وتطمين: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك).. إنه رآك! إن قيامك وصلاتك أنت وطائفة من الذين معك قبلت في ميزان الله.. إن ربك يعلم أنك وهم تجافت جنوبكم عن المضاجع؛ وتركت دفء الفراش في الليلة القارسة، ولم تسمع نداء المضاجع المغري وسمعت نداء الله.. إن ربك يعطف عليك ويريد أن يخفف عنك وعن أصحابك.. (والله يقدر الليل والنهار).. فيطيل من هذا ويقصر من ذاك. فيطول الليل ويقصر. وأنت ومن معك ماضون تقومون أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه. وهو يعلم ضعفكم عن الموالاة. وهو لا يريد أن يعنتكم ولا أن يشق عليكم. إنما يريد لكم الزاد وقد تزودتم فخففوا عن أنفسكم، وخذوا الأمر هينا: فاقرؤوا ما تيسر من القرآن.. في قيام الليل بلا مشقة ولا عنت.. وهناك -في علم الله- أمور تنتظركم تستنفذ الجهد والطاقة، ويشق معها القيام الطويل: (علم أن سيكون منكم مرضى) "يصعب عليهم هذا القيام " (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله).. في طلب الرزق والكد فيه، وهو ضرورة من ضرورات الحياة. والله لا يريد أن تدعوا أمور حياتكم وتنقطعوا لعبادة الشعائر انقطاع الرهبان! (وآخرون يقاتلون في سبيل الله).. فقد علم الله أن سيأذن لكم في الانتصار من ظلمكم بالقتال، ولإقامة راية للإسلام في الأرض يخشاها البغاة! فخففوا إذن على أنفسكم (فاقرءوا ما تيسر منه) بلا عسر ولا مشقة ولا إجهاد.. واستقيموا على فرائض الدين: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة).. وتصدقوا بعد ذلك قرضا لله يبقى لكم خيره.. (وأقرضوا الله قرضا حسنا، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا).. واتجهوا إلى الله مستغفرين عن تقصيركم. فالإنسان يقصر ويخطئ مهما جد وتحرى الصواب: (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)..
إنها لمسة الرحمة والود والتيسير والطمأنينة تجيء بعد عام من الدعوة إلى القيام! ولقد خفف الله عن المسلمين، فجعل قيام الليل لهم تطوعا لا فريضة. أما رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقد مضى على نهجه مع ربه، لا يقل قيامه عن ثلث الليل، يناجي ربه، في خلوة من الليل وهدأة، ويستمد من هذه الحضرة زاد الحياة وزاد الجهاد. على أن قلبه ما كان ينام وإن نامت عيناه. فقد كان قلبه [صلى الله عليه وسلم] دائما مشغولا بذكر الله، متبتلا لمولاه. وقد فرغ قلبه من كل شيء إلا من ربه. على ثقل ما يحمل على عاتقه، وعلى مشقة ما يعاني من الأعباء الثقال..
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
تعود الآيات الكريمة في مطلع هذا الربع إلى الحديث مرة أخرى عن "قيام الليل " الذي كان أوجبه الله على المسلمين في فجر الإسلام، وعلى رأسهم أول المسلمين سيد الأنام، عليه الصلاة والسلام، فقد اقتضت حكمة الله، إعدادا لنبيه، واختبارا للطائفة الأولى من المؤمنين، أن يفرض عليه وعليهم التهجد بالليل، واستمرت هذه الفريضة سارية المفعول مدة غير قصيرة، وإلى فرضها أشار قوله تعالى في الربع الماضي: {يأيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا}. وروي عن عائشة أنها قالت: " إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة – تقصد سورة المزمل- فقام رسول الله وأصحابه حولا، حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا، من بعد ما كان فريضة، وإلى هذا " التخفيف " وجعل قيام الليل تطوعا بعد أن كان فرضا يشير قوله تعالى في هذا الربع الذي هو موضوع حديث اليوم: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن}، قال ابن كثير: " وقد قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من السلف إن هذه الآية نسخت ما كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل". ورغما عن إسقاط فريضة " التهجد " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي يتهجد بالخصوص طوال عهد الرسالة، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، ولم يقل قيامه عن ثلث الليل، وكان صلى الله عليه وسلم يوتر بإحدى عشرة ركعة، فلما تقدم به السن أخذ يوتر بسبع ركعات، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، كما روي عن عائشة رضي الله عنها، وذلك امتثالا لقوله تعالى خطابا لرسوله: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}. قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها"، وسئلت أم سلمة عن قراءة رسول الله، فقالت: " كان يقطع قراءته آية آية: (بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين). وقوله تعالى: {والله يقدر الليل والنهار}، أي: إنه سبحانه يطيل من هذا، ويقصر من ذاك فيطول الليل وينقص، ويأخذ هذا من هذا أحيانا، ويعتدلان أحيانا، طبقا للناموس الذي وضعه الله لهما. وقوله تعالى: {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم}، إشارة إلى فرض قيام الليل، الذي كان الله قد فرضه على المسلمين اختبارا لهم، وإن كان يعلم عجزهم عن موالاة القيام به دائما، وها هو الحق سبحانه يخففه عنهم، حتى لا يكون عليهم في الدين من حرج، ويشهد لمعنى هذه الآية قوله تعالى في آية أخرى: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} (الأنفال: 66). وقوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن}، إذْنٌ من الله تعالى للمؤمنين بأن يكتفوا بقراءة ما تيسر من القرآن، أثناء صلاة الليل {فاقرءوا ما تيسر منه}، أي الآن خفف الله عنكم، فخففوا إذن على أنفسهم، واكتفوا بقراءة ما تيسر من القرآن فيما تيسر من صلاة الليل، حسبما تسمح به ظروفكم، دون مشقة زائدة ولا إرهاق، وكان الحسن البصري يرى أن من الواجب على حملة القرآن أن يقوموا بقراءة شيء منه في الليل.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي:
لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لابدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء، وذلك مع الاعتقاد الراسخ، والمعرفة الكاملة، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي، والتربية الأخلاقية، وهذا ما قام به النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة في السنوات الأولى للبعثة، بل في مدّة حياته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.
وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثراً بالغاً في أرواح المؤمنين، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأً وأقوم قيلاً كما يعبّر عنه القرآن، هي التي أعطتهم هذه الموفقية، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.
يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها...
السعي للعيش كالجهاد في سبيل اللّه:
كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفاً للجهاد في سبيل اللّه، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يُعير أهمية بالغة لهذا الأمر، ولم لا يكون كذلك فلأُمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء...
نظرات في الهدى المنهاجي في القرآن الكريم من خلال السور حسب ترتيب النزول 2010 هـ :
سورة المزمل من أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، والمقصود أوائلُها، أما أواخرُها أو الآية الأخيرة فنزلت في المدينة المنورة بعد الإذن بالقتال.
- مقطع فيه خطابٌ للرسول ولكل مؤمن ومؤمنة من بعده. ماذا عليه أن يفعل مع ربه.
- ومقطع فيه خطاب أيضا للرسول، ولكن من جهة خاصة، هي كيف يعامِلُ أعداءَ الله في تلك الفترة، وهُمْ المكذبون بالدين.
- ومقطع به تختم السورة، وهو آية مدنية طويلة فيها خطابٌ للرسول والمؤمنين يتناسبُ مع المرحلة المدنية التي نزل فيها.
إذن،كالعادة لا أقف عند معاني السورة، ولكن أذهب مباشرة إلى ما نسميه بالهدى المنهاجي.
الهدى الأول: لابدّ لحمْل الأمانة والقول الثقيل من الاستعدَاد اللازم.
ومن اختير لذلك فليودِّع الركون إلى الراحة والإخلاد إلى النوم. لا تزمُّل بعد الحمل، وإنما هو قيامٌ وتشميرٌ.
هذا واضح في مطلع السورة، حيث جاء الأمر لرسول الله بقيام الليل: \(\يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً\)\استعداداً لِمَا ينتظِره من القول الثقيل \(\إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً\)\ سنلقي عليك، هذا شيء قادم، فإذن الذي سيحمل أمانة من جنس أمانة رسول الله، لابد أن يستعد لها بالزاد المناسب، وكذلك كل مسلم -في الحقيقة- ومسلمة من أمة محمد، هو حامل لأمانة الشهادة على الناس، بحكم اتباعه لرسول الله، حامل لأمانة التبليغ لهذا الدين، ولو آية كما جاء في حديث الإمام البخاري:"بلغوا عني ولو آية".
ليس المقصود أن تعرف كل شيء لتبلِّغ، لا، ولكن ما علمته من كتاب الله عز وجل فاعمل به أولا، ثم اجتهد في أن تبلغه إلى غيرك ثانيا.
فحمل الأمانة يقتضي استعدادا خاصا. والله جل جلاله هو الذي يَختار من يُختار لحمل الأمانة، وهو الذي اختار رسله عليهم الصلاة والسلام، \(\اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ\)\ [الحج: 73] وكما يصطفي الرسل، كذلك يصطفي أتباع الرسل أيضا. \(\وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ\)\ [الحج: 76] لذلك فمطلع السورة يعطيك توجيها واضحا في الآيات الثمانية الأولى، وهو أنك ينبغي حين تشْعُر بأنك مسلم من أمة سيدنا محمد، وتُحسُّ بقيمة موقعك، وقيمة مكانتك عند الله تعالى، وأنك نائب عن الرسول بصورة من الصور. إذاك ينبغي أن تحْمِل الأمانة إلى الناس كما حملها الرسول؛ لأنه أرسل إلى الناس كافة، وقبضه الله عز وجل إليه في وقت مبكر، بعد 23 سنة تقريبا من بداية نزول هذا الدين، والإسلام لم يجاوز الجزيرة العربية. فمن يبلغه إلى الآفاق والأجيال؟ لقد كلّف الأمة بذلك بقوله في حجة الوداع: "ألا هل بلّغت... اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد منكم الغائب "فهي أمانة باقية.
وهكذا فهمها أصحاب رسول الله، وفهمتها الأجيال اللاحقة، بدليل الفتوحات التي تلت بعد، وبدليل الانتشار السريع الهائل للنور الإلاهي في الكرة الأرضية في القرن الهجري الأول، إذ أكبر انتشار للنور من الجزيرة العرية كان في القرن الهجري الأول.
هذا الأمر الأول. وإذن، فلِيستعد عبد الله وأمةُ الله لتوديع الراحة، وتوديع النوم، للاستعداد لما هو آتٍ.
الهدى الثاني: طريق الاستعداد الفردي اللازم هو خمس عزائم متتالية متكاملة.
هي بالنسبة لجيل التأسيس عزائم يجب أن يعزموها، فهي أمور كالفرائض:
أولا: قيام الليل: وفي جوفه يبدأ الإسراء والمعراج إلى الدرجات العلى.
ثانيا: ترتيل القرآن: وهو وقُودُ الرواحل أولي العزم، إلى التي هي أقوم.
ثالثا: ذكر الله جل جلاله: وهو قوت القلوب، الواقي من الذنوب، المانعة من دَرَكِ المطلوب.
رابعا: التبتل إلى الله جل جلاله: وهو دخول عالم الحرية بتمام العبدية، والخدمة المولويّة للمولى جل وعلا.
خامسا: التوكل على الله جل جلاله: وهو ثمرةُ الوصول، ومقتضى مشاهدة الربوبية والألوهية في قلوب أهل التبتُّل.
هذه الخمس كلها داخلة في قوله تعالى: \(\قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)\)\.
قبل أن يأمر الله عز وجل عبده ورسوله محمدا باتخاذه وكيلا، وهي الرتبة الخامسة من العزائم، ذكر مسألة الربوبية ومسألة الألوهية، \(\رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ\)\؛ لأن الألوهية مترتبة على الربوبية.
والإشكال عند كفار قريش، لم يكن في مسألة الربوبية، وقلما يكون الإشكال في جانب الربوبية؛ لأنهم يعرفون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي خلقهم، وهو الذي يحيي ويميت... مسألة الربوبية تتجه إلى النعم الآتية من عند الله، وإلى الأفعال القادمة من عند الله إلى عباده، سواء أكانت نعماً أو نقماً، ولكن الألوهية بالعكس، تتجلى فيما يصدر من العبد تجاه مولاه، تتجه إلى القلوب. ماذا تأْلَه القلوب؟ بم تتعلق؟ هل تتعلق بالله عز وجل، أم تتعلق بسواه؟ {لا إله إلا هو} يعني لا مُتَعَلَّق للقلوب إلا به تعالى رغبة ورهبة. هنا كان الإشكال؛ لأن القلوب كانت تتعلق بالكثير من الآلهة، سواء بشكل سحرة، أو كهنة، أو أصنام، أو أشكال متعددة، ولذلك كان عنوان الدخول في الإسلام (لا إله إلا الله). هي كلمة الدخول في هذا الدين. بمعنى أنه يجب عليك بمقتضى هذه الكلمة أن تجعل جميع أعمالك خالصة لله عز وجل لا تشُوبُها شائبة.
أعود إلى النقط الخمس أو العزائم الخمس:
أولها: قيام الليل، وفي جوفه يبدأ الإسراء والمعراج إلى الدّرجات العلى \(\قُمِ اللَّيْلَ\)\.
هذه النقطة، أو هذا الأمر الإلهي كان في البداية عزيمة بالنسبة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وللمجموعة التي آمنت به في أول مرة، رجالا ونساء، لأن هذا القيام كان إطاراً للشّحْن بتعبير اليوم، فداخل هذا القيام سيأتي ترتيل القرآن. \(\وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ\)\ ليس خارج الصلاة، وإن كان ترتيله خارج الصلاة أيضا مطلوبا، لكن الكلام هنا مترتب بعضه على بعض. قم الليل ورتل القرآن في هذا القيام؛ لأنه بذلك الترتيل يصبح مُيسّراً للدخول إلى قلب ابن آدم، خصوصاً في هذا الظرف الذي هو جوف الليل، وأحسنه الثُّلُثُ الأخير من الليل، الذي ينزل فيه الله عز وجل إلى السماء الدنيا فيقول: "هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟...".
ذلك الوقت يكون فيه الإنسان عادة قد استراح \(\إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً\)\. في النهار نَغُوصُ في كثير من الأعمال المتصلة بكل شؤوننا في الحياة، ونأتي تعِبِين، فننام لنستريح، وعندما يستريح قلب ابن آدم يصبح مؤهلا كل التأهيل لكي يستقبل، فحين يكون القلبُ في هذا الوَضْع، الله عز وجل كلف ابن آدم أن يقوم الليل ويرتل القرآن، هذا القيام يكون فيه القلب متفرغا مستريحا مستعدا كل الاستعداد لتقبل النور الإلاهي، فتأتي معه معانٍ كثيرة، ويكون فيه الشحن، والتغذية لروح المؤمن، لإدخال كل المعاني التي في القرآن إلى قلب المؤمن، والترتيل يزيدها ويسهِّل دخولها وخصوصاً في الليل حيث يكون الهدوء والسكينة، ولا حركة، ولا كلام، إلا المناجاة التي هي أبعد ما تكون عن الرياء. العبد مع ربه فقط.
فلذلك هذا الظرف من أحسن الظروف لتنشيط الخميرة الإيمانية التي ستتفاعل بعد وتنْمُو لتُحْدث ما تُحْدِث بعدُ في قلب ابن آدم، وفي جوارحه، وفي مَن حوله، وفي الكون كله بعد.
الثانية: ترتيل القرآن هو وقود الرواحل أولي العزم إلى التي هي أقوم:
بنو آدم قبل أن يمسَّهم القرآن عاديُّون، يعني طاقاتهم موجودة، لكنها ليست عالية، لكن بمجرد أن يُشْحَنُوا بطاقة القرآن يتحولون تحوُّلاً جذريّاً، يولَدون ولادةً جديدة، يصبحون قادرين على أعمال كثيرة جدا.
والله عز وجل ذكر لنا ذلك فقال: \(\إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ\)\ [الأنفال: 66] عشرون من الصابرين يغلبون مائتين، عشرون من طراز خاص، من هذه الطبقة المتزودة بزاد القيام الليلي والترتيل القرآني، عبادُ الله الذين لا يستقبلُون من غير الله عز وجل، عباد الله المنقطعون إلى الله تعالى، هؤلاء مفعَّلون بالقرآن، مخَصَّبُون بالقرآن، مشحونون بالقرآن، إنّه وقود الرواحل الذين أشار إليهم رسول الله بقوله: "إنما النّاسُ كالإِبِل المائة لا تَكَادُ تجد فيها راحلة". والراحلة الناقة التي تصلح للأسفار الطويلة، والناقة الراحِلة لها أوصاف خاصة تُميزها عن غيرها من النوق: أن تكون ذَلُولاً، صبورة، قوية على الحمل، إلى غير ذلك.
فهؤلاء الرواحل هم الذين يخْتارهم الله تعالى للبدايات، لعلمه بهم \(\اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ\)\ [الأنعام: 125].
فهذه النقطة الثانية: ترتيل القرآن في غاية الأهمية الآن. ترتيل القرآن له تأثير كبير، بأي شكل كان، ترتيل القرآن مطلقا له تأثير، وقراءة القرآن مطلقا لها تأثير وفيها أجر عظيم، قال –صلى الله عليه وسلم-: "مَن قرأَ حرْفاً من كتاب الله فله حسَنَةٌ، والحسنة بعَشْر أمْثالِها. لا أقُولُ: ألم حرْفٌ، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف "يعني إذا قلت (ألم) أُجِرْتَ ثلاثين حسنة، وهي تُذْهِبُ ثلاثين سيئة؛ لأن الحسنات يُذْهبن السّيئات.
فالرجوع إلى ترتيل القرآن طريق، بل هو الطّريق لمن له بصيرة.
الثالثة: ذكر الله جل جلاله: يعني الطريق الثالث أو العزيمة الثالثة ذكر الله، وهو "قُوتُ القُلُوب، الوَاقِي من الذّنُوبِ، المَانِعَةِ مِنْ دَرَكِ المَطْلُوب".
والمقصود بالذكر ليس الذكْر اللفظيّ، إذا ذكر الذكر فإنه أساسا ينصرفُ إلى ضد النسيان. هذا أصلُه اللغويُّ، وهو في مثل هذه المقامات يقصد به المثلُ المجَسِّم للذاكر والناسي، في هذا التشبيه الرائع: "مَثَل الذي يذكُر ربّه والذي لا يذْكُر مَثلُ الحيِّ والمَيِّت"، الذاكرُ حيٌّ، والناسي ميّت، ولهذا نهى الله تعالى عن نسيانه، فقال: \(\نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ\)\ [الحشر: 19].
يمكن أن يذكر الإنسان ما شاء الله من الأذكار وقلبه غافل، يعني غير حاضر، فهو في وضع النّسيان، في وضع الغفلة، وليس في وضْع الذكر.
فإذن المقصود أساساً بالذكر سواء أصاحَبَه ذكْرُ اللسان، يعني النطق بالألفاظ، أم كان بالقلب، فالمقصود حضور القلب، الله عز وجل حاضرٌ فيه، والعبدُ يفعلُ ما يفعلُ، أو يقول ما يقولُ، أو يأتي ما يأتي، أو يذَرُ ما يذَرُ، في كل تلك الأحوال هو مع الله جل جلاله.
وهذا الأمر ليس بالعسير بإذن الله، يمكن للعبد أن يكون في مهنته وهو مستحضر الله، غير غائب عن الله؛ في شغله، في طريقه، في سياقته، في أي شيء هو مستحضِرٌ للّه جلّ جلاله. وما جُعلت الصلاةُ إلا لهذا الغرض \(\وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي\)\ [طه: 13]، ولذلك لا يُكْتب للعبد من صلاته إلا ما عقَل منْها، أي إلا ما ذكر منها، أما ما لم يذكر، وكان غائبا، فهذا لا يُكْتَبُ.
ومعنى ذلك أنه يوم تُبْلى السرائر وتُكْشَفُ الأمور -نسأل الله التوفيق والسلامة- ستأتي كثير من الصلوات ناقصة، تجد الملائكة سجلت فقط نقطة بعينها، في ثانية في دقيقة والباقي كُلّه ضاع، يعني تجِدُ صلاة لم تُكتَبْ منها إلا ركعة، أو سجدة، والباقي ضاع، أو ضاع نصفها أو ثلثها أو ربعها؛ لأن الصلاة في أصلها ذكرٌ خالصٌ للّه بدون أي إشراك، فعلى الإنسان بمجرد الإحرام أن يغيب عن الدنيا، حين يكبّر، وحين يقرأ، وحين يركع، وحين يسجد، وحين يدعو.. إن الصلاة -كما ترون- قائمة على لفظ واحد يتردَّدُ أكثر من سواه، هو "الله أكبر"، هذا التكبيرُ هو السِّر؛ لأن ابن آدم قد يُكَبّر مع الله سواه، أو يُكبِّرُ سوى الله في قلبه من حيث لا يشعر، يكبِّر الدنيا، يكبِّر المال، يكبِّر الجاه، يكبِّر السلطة، يكبِّر أشياء كثيرة، ولكن الله لا يقْبَلُ منه أي تكْبِير لغَيْره أبداً.
لذلك يتكرر هذا اللفظ كأنه يقيم علينا الحجة، أيْ يجبُ أن تُكبِّروا الله فقط، ولذلك التكبير يقتضي الذكر، إذا كبرت فعلا، وأعلنت التكبير، ينبغي أن تغادر سواه، وتنقطع له في صلاتك حتى تُسلِّم، كأنك تقول للناس: أنا عدت "السلام عليكم"، فهذا الذكر لله جل جلاله هو المقصودُ.
وهذا الذكر يُعينُ عليه القرآن، لأن القرآن هو الذّكر، وهو طريق الذّكر، وهو الذكر الأعظم \(\وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ\)\ [الحجر: 6] فهو الذكر، وبه تتم عملية التذكُّر الحقيقية التي يريدها الله عز وجل منا، فذكر الله مترتب على ما سبق، وإذا حضر هذا الذكر في القلب كان هو القوت، الواقِيَ من الذُّنوب، المانعة من درك المطلوب.
- لماذا الذكر هو الواقي من الذنوب؟
الحديث صريح صحيح معروف هو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَزْنِى الزّاني حِين يَزْنِي وهو مُومِنٌ، ولا يشربُ الخمر حينَ يشرَبُ وهو مُومِن" في تلك اللحظة يغيب، ويشتغل بباطله، أما إذا كان حاضرًا كما حدث لأحد السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظله يوم لا ظِلّ إلا ظِلُّه قال: "وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَال: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ" أو كما حدث لأحد الثلاثة الذين انسَدّ عليهم الغار حين قالت له ابنة عمه: «اتّقِ اللّه ولا تفض الخاتم إلا بحقه»، فتذكّر وقامَ، ولم تحْدُث الخطيئة، فارتفع بذلك الفعل الذي فعل إلى أحد السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، في حديث السبعة، وارتفع في حديث الثلاثة الذين كانوا في الغار إلى درجة التخليص من أعظم أزمة.
لأن مقاومة الشهوة في عنفوانها، وإمكانها، وشدّة الرغبة فيها، لا يفعله إلا أولياءُ الله، وعبادُ الله المقربون، الذين يخشون الله حق الخشية.
الرابعة: التبتل إلى الله، والتبتل يأتي بعد الذكر، بمعنى أنك إذا أكثرتَ من قيام الليل، وأكثرت من قراءة القرآن، وأكْثرت من الذِّكْر حدَثَ التّبتّل أي الانقطاع لله تعالى، فما عاد المتبتِّل يأْبَه إلا بالله جل جلاله، ما عاد يشعُر بسوى الله، ماذا يَسْوى غيرُ الله؟ لا شيء، فلذلك يتبتّل إلى الله جل وعلا، ينقطع له، حيثما كان وأينما كان، هو بالجسد مع الناس، ولكنه في الحقيقة بالقلب مع الله جل جلاله، بأمره كله مع الله، أتى ما أتى، وترك ما ترك، لا يُحِبُّ إلا الله، ولا يتلقَّى إلا من اللّه، ولا يذل إلا لله.
فهذه الرتبة الرابعة \(\وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ\)\ارْق إلى هذا المستوى، وهذا المستوى يُبْلغُ بناءً على الإكْثار ممّا قبله، فهو مُنْبَنٍ على ما سبق من القيام والترتيل والذكر، بعد ذلك كله جاء \(\وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً\)\.
لنَنْتبِه إلى التعبير القرآني، فالله تعالى لم يقل: (تبتّل إليه) فقط بل أكّد الفعل بالمفعول المطلق المؤكد \(\وتبتّل إليه تبْتِيلا\)\ أي انقطِعْ لَهُ انقطاعاً تاما كليا.
لأنه إذا بقي في العبد شوائب، أي جهاتٌ، وجوانبٌ، يحْكُم فيها غير الله فَسَدَ أمره، وتتسع تِلْك الدائرة مع الأيام بالشّبهات، والشهوات، فتحْدُث المصائب.
ويؤتى العبْدُ من تلك الجهات غير المصفاة.
لذلك جاءت الرتبة الخامسة: اتخاذُ الله تعالى وكِيلا: كأنها نتيجة التبتُّل والانقطاع إلى الله بيقين وعلى بصيرة وحضور لشهود الربوبية وشهود الألوهية في قلوب أهل التبتّل، بل كانت الرتبة الخامسة هي ثمرة الوصول، أي هؤلاء المتبتلون الذين انقطعوا إلى الله بقلوبهم، ما الذي ينبغي لهم؟! ينبغي أن يتخذوا الله عز وجل وكيلا لهم في أمرهم كله، عليه يتوكلون وإليه يفوضون.
لأن كل شيء بيده \(\رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً\)\
اتّخِذْه أنت، مطلُوب منك أن يصْدُر منك هذا الفعل: "الاتخاذ" يعني أن تجعله أنت وكيلك. ولا وصول لهذه الرتبة إلا بعد تصحيح وإنجاز العزائم الأربع التي سبقتها: قيام بالسَّحَر، وترتيل خاشع، وذكر متضرع، وتبتل منقطع لله.
فهذه الأمور الخمسة هي طريق الاستعداد اللازم لكل فرد مسلم ومسلمة أراد أن يتحمل أمانة الدعوة، وأمانة الشهادة على الناس، كما تحملهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يمكن طبعا أن يقوم المسلم بذلك دفعة واحدة، ولكن عليه أن ينطلق بالتدريج مقتحما كل العقبات لتحقيق العزائم الضرورية لنجاح الدّعوة الإسلامية:
فإنْ كُنْتَ ذَا رَأْيٍ فكُنْ ذا عَزِيمَةٍ *** فإنّ فَسَادَ الرَّأْي أنْ تَتَرَدَّدَا
الهدى الثالث: لابد للداعية إلى الله من أعداء، يهاجمونه ودعوته بكل الوسائل، قولاً وفعلا، كيداً ومكْراً. وذلك فتنة وابتلاء من الله تعالى له ولمن معه.
هذه سنة الله الماضية، من أول الكلام الذي سمعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ورقة بن نوفل: "لَمْ يأْتِ رجلٌ قَطُّ بمثل ما جِئْت بِهِ إلا عُودِي" وقال: "ليتني أَكُونُ حَيّا إذْ يُخْرجك قومك" فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم- متعجبا: "أوَمُخْرِجيّ هُمْ؟" هلْ هذا سيحْدُث؟ تعجّبَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا.
فالذي يعرف الدعوات، وعنده شيء من أخبار الكتب السابقة هو الذي قال له هذا الكلام: "لم يأتِ أحد قَطُّ بمثل ما جِئت به إلا عُودِيَ وإنْ يُدْرِكْنِي يومُكَ أنْصُرك نَصْراً مُؤزّراً" فهذه العداوة طبيعية؛ لأنها تدافُعٌ بين الحق والباطل.
ولذلك جاء مباشرة بعد المقطع الأول قول الله تعالى: \(\وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)\)\.
إنّ هذا المقطع الذي جاء بعد مطلع هذه السورة يشبه المقطع الذي جاء بعد مطلع سورة العلق، فبعد الآيات الخمس هناك جاء مباشرة \(\كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى\)\ ومثل ذلك أيضا في سورة القلم، فبعد المطلع جاء مباشرة \(\فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ\)\ الأعداء حاضرون، الصادّون حاضرون، المُعرضون حاضرون، المتهِمون حاضرون، المستهزئون حاضرون.
لكن هناك دائما موقف محدد متشابه تقريبا مُسْتمرٌّ وهو كيفية الرّدّ.
الهدى الرابع إذن هو أصُولُ الرّدِّ على المعادين، خمسةُ أساليب أيضا متتالية متكاملة:
الدعوة إلى الله عز وجل كما كانت زمن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في بدايتها، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- يَعْرض الحق على الناس، في تلك المرحلة، ماذا كان عليه أن يصنع؟! والمخالفون يهاجمونه بالقول، والكيد، وكل شيء.
إذاك، كان الإرشاد يتلخص في خمسة أمور، هي أصول الرد على المعادين، متتالية متكاملة.
أولُها: الصبر على ما يقولون ويفعلون من أذى. فالصبرَ، الصبرَ...
وقد تطور مع الزمن، من الصبر على أذى القول، إلى الصبر على بذل المال والنفس في سبيل الله \(\وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ\)\ [محمد: 32]. والصبر في جميع المراحل، وفي جميع الأحوال، وبجميع أنواعه، هو ضامِنُ الخيْر.
ولكن الصبر المطلوب هو الصبر الشرعي، وليس الصبر الشائع بين الناس الذي فيه إدْهان، وفيه تسليم بالباطل، وفيه الرجوع عن الحق. كلا، ثم كلا.
ولكن عليك أن تعرف الحق وتعمل به وتصبر. مهما جاءت زعازع، ورياح هوجاء، وعواصف،... اِثْبت، فإن النّصر مع الصبر. إذا كان الصّبْرُ كان النصر، وإذا لم يكن صبرٌ ضاع كل شيء: \(\وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ\)\.
ولا يكون الصبر إلا على مؤلم، فقد اتُّهم بالجنون وغيره، فاصبر على القول، ومِثْله على الفعل.
الثاني: هو الهجْرُ الجميل \(\وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً\)\ هجرانهم بالإعراض عنهم وعدم أذاهم، هم يؤذونك وأنت لا تُؤْذهم \(\وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ\)\ [الأحزاب: 48] تحمَّلْ الأذى ولا تؤذهم.
انظر إلى هذه الدرجة الرفيعة التي يريد الله عز وجل أن يرقى إليها المؤمنون، بدءا من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فالمسلم يتحمل أذى الخلْق، ولا يؤذي الخَلْق، وهذه درجة عالية؛ يفعَلُ الحق، يعَلِّم الحق، يقول الحق، يتصف بالحق، ويقف عند ذلك الحدِّ، فيصبر ويحتسب إذا أوذي، ثم لا يؤذيهم، الهجْرُ الجميل هو: أعْرِض عنْهُم وقُل سلام.
كيف يُعَامَلُ من يعادى من أعداء الله، يعني في المرحلة التي يكون الدِّين فيها يتأسَّسُ، مازال لمْ يعُمّ، مازال لم يصل إلى مرحلة الأمة القائمة بدين الله عز وجل، تلك مرحلة ستأتينا في آخر السورة إن شاء الله.
فإذن أول الرّدِّ الصبرُ، والثاني الهَجْرُ الجميل.
وثالث وسائل الرّدِّ التخويف بالله تعالى الذي يتولى أمرهُم بكَيْدِه المتين، كما تقدم، الذي يُمهل في الدنيا ولا يُهْمل \(\وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً\)\. يمكن أن يمهلهم ولكن الحساب قادمٌ في الدنيا، بكيده المتين \(\وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ\)\ في سورة القلم. وفي الآخرة عذابه المهين، الذي منه الجحيم والهول العظيم، كما ذكر هنا.
هذا التخويف هو الذي كان الله عز وجل يزوِّد رسوله به، به كان يتمّ الرّدُ بشكل من الأشكال، \(\وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ\)\ التخويف بأهوال يوم القيامة، يوم الحساب.
الأسلوب الآخر الرابع هو قصُّ القصَصِ عليهم، القصص المشابهة لحالهم للاعتبار والاتعاظ \(\إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً\)\ وهذا الأخذ الوبيل يمكن أن يقع لكم أيضا، فتجنبوا هذا، احْذَرُوا هذا الأمر.
هذا الأسلوب أيضا من الأساليب التي كان يردُّ بها على الكفار والمشركين والمكذبين بالدّين إلى غير ذلك.
وخامس أساليب الرّدّ: ترغيبُهم في التوبة إلى ربهم قبل فوات الأوان.
وهذا مما يستفاد من قوله تعالى: \(\إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً\)\هذه تذكرة لكم، تُذَكِّركم بالعهد الأول، فإن تذكرتُم فمن شاء مِنْكُم اتخذ إلى ربّه سبيلا.
يعني بذلك أنه يقول لهم: اذْهَبُوا في هذا الاتجاه، هذا هو الطريق، هذه مجرد تذكرة، فاتجهوا وسارعوا، اتخذوا سبيلا إلى ربكم.
الهدى الخامس: التطور فـي الأحوال يقتضي التطور في الأعمال، دون مسٍّ بالأصْلِ الثّابِت في كل الأحوال:
هذا الكلام من بداية الآية الأخيرة، وهي آية طويلة \(\إن ربّك يعْلم أنك ...
... أن الله غفور رحيم\)\ آية واحدة ماذا فيها؟!
فيها هذا المعنى الذي أتحدث عنه، وهو أن الظرف تغَيَّر الآن.
هذه الآية مدنية، تعالج قضايا في مستوى وصول المسلمين إلى مرحلة الأمة، حيث تظهر أمور أخرى؛ فتكون طائفة من الناس مرضى، ويكون صنف من الناس يشتغلون بأشكال من الأشغال، تقتضيها الحياة بصفة عامة، ويكون صنف من الناس يجاهد في سبيل الله مقاتلين في سبيل الله. إذن هناك أمور جَدَّتْ؛ سواء في التطور العام لجسم الأمة، أم في الواجبات الجديدة.
في مرحلة {قم الليل} لم يكن قتال، ولم يكن أشْكالٌ من طلب الضّرب في الأرض والابتغاء من فضل الله، وهو تعبير في القرآن الكريم يطلق على وجوهِ النشاط العامة، وأشْكال الشغل التي يحتاجها الإنسان لتدبير أمر معاشه.
في أول السورة حديثٌ في صورة فرد هو الرسول يدعو إلى الله عز وجل ويجدُ مقاومة، ثم إرشاد وتوجيه إلى ما ينبغي أن يُفْعل تجاه الطغيان والعدوان. لكن الآية الأخيرة ظرف آخر، تغيَّر الأمر، ما بقيت الدعوة في تلك المرحلة، تطورت الأحوال، وهذا التطور يقتضي تطوراً آخر في الأعمال. كان القيام قبْلُ واجباً والآن خَفَّفَه الله تعالى \(\عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ\)\ النتيجة \(\عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ\)\ كررها الله مرتين.
الآن صار الكلام للأمة، لجميع المؤمنين، لم يعد الكلام في {قم الليل}، {ورتل}، لم يعُدْ الخطاب خطاباً فرديا.
الكلام الآن للأمة جمعاء، لأن الوضع تغير.
فاقتضى التطورُ في الأحوال التطور في الأعمال، دون مسٍّ بالأصل الثابت في كل الأحوال.
بمعنى أن هناك أشياء تتغيَّرُ، وأشياء لا تقبل التغيير.
الهدى السادس: تكليف الأمة بأعمال تناسب مستواها المرحلي:
الناس في الأمة من حيث الشغل أصناف ثلاثة:
عاجزون عن الشغل بعُذْر شرعي، كالمرضى ومن في حكمهم من شيوخ وأطفال وغير ذلك، وهو الذي تشير إليه الآية \(\عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى\)\.
مشتغلون منتجون، وهم الذين عبر عنهم القرآن \(\يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ\)\ فضل الله في جميع أنواع الشغل، جميع أنواع الوظائف، جميع أنواع الأعمال التي تتعلق بالمعاش، فهذا الصنف هو صنف الطبقة التي تنتج، يعني تشتغل.
منشغلون بالجهاد في سبيل الله، ولم أقل مشغولون، يعني منشغلون عن الشغل الذي يتعلق بالمعاش، هم منشغلون بالجهاد.
الطبقة الوسطى إذن هي العمود الفقري الذي يحْمِل العجزة، ويموِّلُ المجاهدين، بتعبير آخر: كيف تصير الأمة في النهاية؟!
الأمة معظمها هو الطبقة التي تنتج، تشتغل، تكسب.
ويوجد في الأمة طبقة لا تقدر على الإنتاج. لا نقول لا تنتج، الذي يقدر على الإنتاج ولا ينتج يُجْبر على أن يشتغل، أو المطلوب أن نُوجِد لديه الرغبة الداخلية، ولكن لا نعطيه الزكاة.
هذا النوع القادر على الكسب ولا يكسب، الرسول يقول فيه: "لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو -أحسبه قال: إلى الجبل- فيحتطب، فيبيع، فيأكل ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس". انتبهوا إلى "يتصدق"، قاعدة قرآنية عظيمة هي \(\لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ\)\ [الطلاق: 7].
الذي لديه الكثير ينفق من الكثير، وصاحب القليل ينفق من القليل، ولكن صاحب القليل يقول: كيف أنفق وما عندي ما يكفيني؟
أنْفِق، والأمة عليها أن تكفيك الطوارئ.
إذن ههنا نقطة مهمة فيها توجيه لوضع الأمة، هو أن الطبقة العاجزة عن الكسب مكفولة حقوقها عمليا، الطبقة القادرة على الكسب هي التي تتكفل بها؛ لذلك قال –صلى الله عليه وسلم-: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه"، أي أنا أتكفل. يقول هذا بصفته ممثلا للمسلمين.
هذا الوضع الطبيعي، لذلك قال أيضا صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالذي يشبع، وجاره جائع"، وقال "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبُّ لنفسه". لا يحبُّ أحدٌ أن يبيت جوعان، إذن حتى الآخرون يجب أن لا يبيتوا جوعى.
الآن وضْعُنا سيء للأسف. وها هنا استطراد: فاس المدينة القديمة مثلا فيها الدور الكبيرة والمتوسطة والصغيرة وفيها "المصريات" (اسم شعبي لنوع من السكن الصغير) معنى ذلك أن يتساكن الغني مع الفقير مع المتوسط وإذاك بسرعة يتم الإحساس بهذا "يشبع، وجاره جائع". والآن التجزئات على الطريقة الغربية التي تُعَلِّب بني آدم حسب دخولهم المادية، فتجزئة فيها كما يقال الفراعنة، وتجزئة فيها "القوارنة"، وتجزئة فيها "الهوامنة"، يعني كل تجزئة من نوع، لا توجد أي تجزئة يسمونها مدن القصدير، هذا الوضع شاذ وينبغي على الذين يشتغلون بالتعمير أو بالهندسة المعمارية أو بالتصاميم المديرية وغيرها ينبغي أن يفهموا هذا الكلام، وأن يؤسسوا البنيان على أساس إسلامي على أساس التساكن بين الطبقات الاجتماعية بين الغني والفقير، والضعيف والقوي، وغير ذلك. كما يحدث في الصلاة. وضع الصلاة أكبر مظهر للحياة الإسلامية في جميع مجالاتها، في العلاقة بين الرئيس والمرؤوس، بين الناس وبين القانون، لا أحد يستطيع أن يقول: إن عنده مكاناً في المسجد، لا أحد، الذي حضر أولاً هو صاحب المكان وهكذا وهكذا، الناس يصطفون اصطفافاً حسب وصولهم \(\وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ\)\ [الواقعة: 12- 13).
هذا الوضع الحالي في التساكن شاذ، ورثناه عن الغرب ويحتاج إلى تصحيح، ولن يصححه إلا من صُنِعُوا على عين الله، الذين لهم أعْين الوحي، الذين ليست لهم الأعْيُن الزرقاء ولا الأعين الحمراء كما أسميها، ولكن الذين لهم أعين فطرية طبيعية يبصرون بها بدون نظارات ملونة.
فالأمة المسلمة إذن على ثلاث طبقات:
- طبقة عاجزة عن الكسب عجزاً حقيقيا. فهذه تُكْفل، وهي المرضى ومن في حكمهم من العجزة.
- وطبقة منتجة، وهذه هي التي تتولى التكفل، هذه التي تؤخذ منها الزكاة، ومنها تؤخذ الأقوات، ومنها تؤخذ كل الأشياء التي تحتاجها الأمة، لسد حاجة العجزة، وسد حاجة المجاهدين.
- وطبقة حامية للأمة \(\وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ\)\فلا أمة بدون حامية تدافع عن كيانها، ولا حامية بدون تمويل وتجهيز وإعداد.
الهدى السابع: أصول صيانة المكتسبات:
حين تصير الأمة بتلك الأصناف الثلاثة تأتي خمسة تكاليف متتالية متكاملة.
لأننا عندما وصلنا إلى هذه الدرجة، كأنه وقع انتقالٌ من المرحلة التي كان فيها الإسلام مازال عند فرد أو مجموعة أفراد، أو عند قلة، وهم محاصرون بالقول قبل العمل، مغلوبون، ضعاف، إلى أن صارت الأمةُ أمَّةً لا سيادة لأحَدٍ على أرضها، ولا سيادة لأحد على نفسها، وتضرب في الأرض ابتغاء مرضاة الله، وتكفل المحتاجين، وتموِّل المجاهدين.
حين وصلنا إلى هذه الدرجة كيف نصون المكتسبات؟
معنى هذا أن القرآن المدني يبني الصورة التي ينبغي أن تستقر الأمة عليها في الأخير:
وأولها: قراءة ما تيسر من القرآن، سواء في الصلاة أم في غير الصلاة، لاستمرار التزود بالوقود.
وقبلُ كان القيام فرضاً، كان قياما من الثلث إلى الثلثين، أما الآن فاقرأوا ما تيسر منه، \(\عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ\)\ \(\عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى\)\ وعلم أن ستكون لكم أشغال جديدة \(\وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ\)\لذا ليس لازماً عليكم الآن أن تقوموا الثلث أو النصف أو الثلثين، لا. الآن اقرأوا ما تيسر من القرآن، وقوموا ما تيسر من الليل، حفاظا على قيام الليل الذي كان في الأصل.
هذه هي الأولى، قراءة ما تيسر من القرآن، يعني في القيام وفي غيره بصفة عامة، بمعنى أن القرآن لا يمكن الانقطاع عنه. هذه نقطة جوهرية جداً، ولا ننسى ولا ينبغي أن ننسى بحال أن الصلاة فيها قرآن وتبطل إذا لم يقرأ فيها قرآن: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" لابد من الفاتحة، هذا الحدُّ الأدنى والفاتحة خلاصة القرآن \(\وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ\)\ [الحجر: 87].
فرض علينا قراءة ما تيسر من القرآن فرضا، أن نقرأ هذه الفاتحة سبع عشرة مرة في اليوم، اثنتين في الصبح، وأربعاً في الظهر، وأربعاً في العصر، وثلاثاً في المغرب، وأربعاً في العشاء.
ومعنى هذا أن هذا هو الحد الأدنى للقرآن الذي يجب أن يقرأ في اليوم.
ومعناه أيضا أن الروح، روح البشر لا تستطيع الاستغناء عن القرآن ولو يوما واحدا أو نصف يوم، فهو قُوتُها، ووقُودُها، وطاقتُها.
ثانيها: إقامة الصلاة لاستمرار الاتصال القوي، واستمرار لوازمه، وعلى رأسها ولاية الله تعالى للمؤمنين، الصلاة صلة بين العبد وربه، وإقامتها وأداؤها على حقيقتها هو جعلها قائمة، وهذا القيام يعني الاستواء الكامل، أي تكون في أحسن صورة، "أقيموا الصلاة" معناه: صَلُّوا على أحسن صورة؛ في الوقت، في الطهارة، في كل شيء، في الركوع تعطيه حقه، في السجود باطمئنان؛ أي الغَيْبة التامة عما سوى الله تعالى \(\وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي\)\ [طه: 34] لا إقامة للصلاة، وقد خرج وقتها. لا إقامة للصلاة وليس فيها ذِكْرٌ، ليس فيها حضور. لا إقامة للصلاة وليس فيها طهارة أو استقبال أو.. ينبغي أن تؤدى على حقها، هذه إقامتها. والصلاة صلة، وعن طريق هذه الصلة يأتي تأثُّرُ العبد بربه، تأتي النعم من الله إلى القلب البشري، تأتي الأنوار الإلاهية، تأتي عن طريق هذه الصلة التي في الصلاة، لذلك يجب إقامة الصلاة، لإقامة واستمرار الاتصال القوي، واستمرار لوازمه، وعلى رأسها ولاية الله تعالى للمؤمنين.
ثالثها: إيتاء الزكاة، لاستمرار صحة الجسد الإيماني كله وقوته وتكافله، لأنه بالزكاة نقضي على تلك المشاكل التي عند الليبراليين والاشتراكيين، وبالزكاة يتلاحم المجتمع.
وإيتاء الزكاة لا ينبغي أن نفهم منه أن يأتي الفقير إلى الزكاة، كلا، بل إن المُزكِّي هو الذي يخرجها ويذهب بها إلى الفقير، أو تتكفل الأمة بإيصالها للفقير، لأن القرآن ما قال (إذا جاؤوكم فأعطوهم الزكاة)، ولكن قال \(\وَآتَوُا الزَّكَاةَ\)\. أنت عليك أن تأتي للفقير بالزكاة، لأن ذلك الحق حق الله، والله قد ملَّكَه للفقير، وليس ذلك من مالك أيها المزكِّي، فحذَارِ حَذَارِ من أكْلِ فلْسٍ أو فلْسَيْن من الزكاة؛ لأنه مال الله ومال الغير.
رابعها: الإنفاق في سبيل الله \(\وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا\)\ وانظروا إلى الترغيب الكبير في الإنفاق بالمال. معناه أن المال أُعْطِي درجتين، كما أعطيت الصلاةُ درجتين في الحقيقة؛ لأن \(\فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ\)\ ترتبط بقيام الليل في أصلها، وإقامة الصلاةِ: الصلوات الخمس.
وهنا الجانب المالي أيضا أخذَ الزكاة، وأخذَ ما بعد الزكاة \(\وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا\)\ ثم يرغب \(\وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم\)ن أنفقَ ما أنْفق لغيْره، إنما أعْطَى نفسه، \(\وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا\)\ تجدوه عند الله قد تضاعف أضعافاً مضاعفة.
ترغيب في الإنفاق في سبيل الله: الإنفاق طهارة وتزكية، الإنفاق في سبيل الله عز وجل يحُلُّ المشاكل بجميع أنواعها، زيادة على أنه بالنسبة للمنفق تزكية له \(\خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا\)\ [التوبة: 104] الإنفاق في سبيل الله لسد الحاجات الطارئة والإضافية؛ لأن الحاجات الأساسية تسدها الزكاة، ولكن ما زاد عن الحاجات الأساسية من الطوارئ أو من الأمور التكميلية يسدها الإنفاق.
خامسها وآخرها: الاستغفار لمحو آثار الخطايا والأخطاء بعد الانتهاء من كل عمل، وهذه سنة أرشدنا الله إليها وأكرمنا بها، ينبغي أن نستغفر الله في آخر الأعمال، ولذلك شرع لنا عندما ننهي الصلاة أن نستغفر الله ثلاثا. وهو –صلى الله عليه وسلم- بعد أن ختم رسالته أخبره الله عز وجل أنه سيرحل وأمره بالاستغفار \(\إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)\)\ لأننا مهما أتقنا، ومهما أحسنا، ومهما اجتهدنا، تقع أخطاء "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" فنستغفر الله تعالى.
أولا: القرآن هو مصدر الطاقة كلها للصف الإيماني أفراداً وأمة (أفراداً: الآيات الثمانية الأولى) و (أمة: الآية الأخيرة): بمعنى أن الطاقة الحقيقية التي تملكها الأمة الإسلامية للنهوض والشهود على الناس من جديد هي القرآن، بشرط تفعيلها وتخصيبها أي العمل بها. إذا عملت الأمة بالقرآن فإن الطاقات الأخرى ستنتظم، ولن تهمل، وسنستطيع تفعيلها. والطاقة لا توجد في كلام البشر بل في كلام الله تعالى، فالطاقة إذن لها مصدر واحد وحيد بالنسبة للصف الإيماني، فلا يمكن للمؤمنين أن يأتوا بالطاقة من مكان آخر غير القرآن.
ثانيا: الحاجة إلى الطاقة عند الإقلاع أكثر بكثير من الحاجة إليها بعد الاستواء في السير:
الآيات الثمانية الأولى تشرح هذا، لقد كان فيها تركيز على مسألة الشحن والوقود، فقيام الليل كان إجباريا وفرضا وبحجم كبير: \(\نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)\)\،\(\إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ\)\لكن بعد ذلك علم أنه سيكون منكم مرضى، علم أن لن تحصوه فتاب عليكم، فاقرؤوا ما تيسر من القرآن، ما بقي ذلك التكليف غليظا كما كان أول مرة، ما بقيت الحاجة إلى التزود بالوقود والطاقة العالية كما كانت أول مرة. اللحظات الأولى لحظات إقلاع وانطلاق، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- هو مؤسس الخير، ومن معه في البداية يؤسسونه، وجيل التأسيس يكون دائما محتاجا إلى طاقة عالية، ليحقق نتائج غير عادية. قال تعالى:\(\إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ\)\ [الأنفال: 66] بعد ذلك. قال: \(\الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا\)\ الأنفال: 67] لماذا اختلفت نسبة الطاقة؟ لأن المسلمين الأوائل كانوا يؤسسون فكان شحنهم بالطاقة عاليا، أما المتأخرون فقد صاروا أمة، وصارت لهم أشغال، وكثروا بحمد الله عز وجل، فأصبح يكفيهم أن يقرؤوا شيئا من القرآن مع المحافظة على الصلوات الخمس، وذلك ما سميته صيانة المكتسبات السابقة.
ثالثا: حسن معاملة أعداء الدين، وترك الباب مفتوحا أمامهم، يقوي الرجاء في توبتهم. والكلام دائما في البدايات.