نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (14)

ولما دل على قدرته واختياره سبحانه دلالة على القدرة على كل ما أخبر به لاسيما الساعة ، بخلق السماوات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس ، ثم ذكر بعض ما في المكشوف من الأرض المحيط به الهواء من التفاوت الدال على تفرد الصانع واختياره ، وختمه باللون ، أتبع ذلك بالمغمور بالماء الذي لا لون له في الحقيقة ، إشارة إلى أنه ضمنه من المنافع والحيوانات التي لها من المقادير والكيفيات والأشكال والألوان البديعة التخطيط ، الغريبة الصباغ - ما هو أدل من ذلك فقال : { وهو } أي لا غيره { الذي سخر البحر } أي ذلَّله وهيأه لعيش ما فيه من الحيوان وتكون الجواهر ، وغير ذلك من المنافع ، والمراد به السبعة الأبحر الكائنة في الربع المرتفع عن الماء ، وهو المسكون من كرة الأرض المادَّة من البحر المحيط الغامر لثلاثة أرباع الأرض ، فجعله بالتسخير بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به بالركوب والغوص وغيرهما { لتأكلوا منه } أي بالاصطياد وغيره من لحوم الأسماك { لحماً طرياً } لا تجد أنعم منه ولا ألين ، وهو أرطب اللحوم فيسرع إليه الفساد فيبادر إلى أكله عذباً لذيذاً مع نشبه في ملح زعاق { وتستخرجوا منه } أي بجهدكم في الغوص وما يتبعه { حلية تلبسونها } أي نساؤكم ، وهن بعضكم لكم ، فكأن اللابس أنتم ، وهي من الحجارة التي لا ترى أصلب منها ولا أصفى من اللؤلؤ وكذا من المرجان وغيره ، مع نسبة هذا الصلب وذاك الطري إلى الماء ، فلو أنه فاعل بطبعه لاستويا .

ولما ذكر المنافع العامة مخاطباً لهم بها ، وكان المخر - وهو أن تجري السفينة مستقبلة الريح ، فتشق الماء ، فيسمع لجريها صوت معجب ، وذلك مع الحمل الثقيل - آية عظيمة لا يتأملها إلا أرباب القلوب خص بالخطاب أعلى أولي الألباب ، ومن قاربه في ابتغاء الصواب ، فقال : { وترى الفلك } ولما كان النظر إلى تعداد النعم هنا أتم منه في سورة فاطر ، قدم المخر في قوله : { مواخر فيه } أي جواري تشق الماء مع صوت ، لتركبوها فتستدلوا - بعدم رسوبها فيه مع ميوعه ورقته وشدة لطافته - على وحدانية الإله وقدرته .

ولما علل التسخير بمنفعة البحر نفسه من الأكل وما تبعه ، عطف على ذلك النفع به ، فقال تعالى : { ولتبتغوا } أي تطلبوا طلباً عظيماً بركوبه { من فضله } أي الله بالتوصل بها إلى البلدان الشاسعة للمتاجر وغيرها { ولعلكم تشكرون * } هذه النعم التي أنتم عاجزون عنها لولا تسخيره ؛ والمخر : شق الماء عن يمين وشمال ، وهو أيضاً صوت هبوب الريح إذا اشتد هبوبها ، وقد ابتدىء فيه بما يغوص تارة ويطف أخرى بالاختيار ، وثنى بما طبعه الرسوب ، وثلث بما من طبعه الطفوف .