نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَقَدۡ أَتَوۡاْ عَلَى ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِيٓ أُمۡطِرَتۡ مَطَرَ ٱلسَّوۡءِۚ أَفَلَمۡ يَكُونُواْ يَرَوۡنَهَاۚ بَلۡ كَانُواْ لَا يَرۡجُونَ نُشُورٗا} (40)

ولما ذكر الإهلاك بالماء وبغيره ، وكان الإهلاك بالماء تارة بالبحر ، وتارة بالإمطار ، وختم بالخسف ، ذكر الخسف الناشىء عن الأمطار ، بحجارة النار ، مع الغمر بالماء ، دلالة على تمام القدرة ، وباهر العظمة ، وتذكيراً بما يرونه كل قليل في سفرهم إلى الأرض المقدسة لمتجرهم ، وافتتح القصة باللام المؤذنة بعظيم الاهتمام ، مقرونة بحرف التحقيق ، إشارة إلى أنهم لعدم الانتفاع بالآيات كالمنكرين للمحسوسات ، وغير الأسلوب تنبيهاً على عظيم الشأن وهزاً للسامع فقال : { ولقد أتوا } أي هؤلاء المكذبون من قومك ، وقال : { على القرية } - وإن كانت مدائن سبعاً أو خمساً كما قيل - تحقيراً لشأنها في جنب قدرته سبحانه ، وإهانة لمن يريد عذابه ، ودلالة على جمع الفاحشة لهم حتى كانوا كأنهم شيء واحد كما دل عليه التعبير بمادة " قرا " الدالة على الجمع { التي أمطرت } أي وقع إمطارها ممن لا يقدر على الإمطار سواه بالحجارة ، ولذا قال : { مطر السوء } وهي قرى قوم لوط ، ثم خسف بها وغمرت بما ليس في الأرض مثله في أنواع الخبث ؛ قال البغوي : كانت خمس قرى فأهلك الله أربعاً منها ونجت واحدة وهي أصغرها ، وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث .

ولما كانوا يمرون عليها في أسفارهم ، وكان من حقهم أن يتعظوا بحالهم ، فيرجعوا عن ضلالهم ، تسبب عن ذلك استحقاقهم للإنكار الشديد في قوله : { أفلم يكونوا } أي بما في جبلاتهم من الأخلاق العالية { يرونها } أي في أسفارهم إلى الشام ليعتبروا بما حل بأهلها من عذاب الله فيتوبوا .

ولما كان التقدير : بل رأوها ، أضرب عنه بقوله : { بل } أي لم يكن تكذيبهم بسبب عدم رؤيتها وعدم علمهم بما حل بأهلها ، بل بسبب أنهم { كانوا } يكذبون بالقيامة كأنه لهم طبع .

ولما كان عود الإنسان إلى ما كان من صحته محبوباً له ، كان ينبغي لهم لو عقلوا أن يعلقوا رجاءهم بالبعث لأنه لا رجوع إلى الحياة ، فهو كرجوع المريض لا سيما المدنف إلى الصحة ، فلذلك قال معبراً بالرجاء تنبيهاً على هذا : { لا يرجون نشوراً* } بعد الموت ليخافوا الله عز وجل فيخلصوا له فيجازيهم على ذلك ، لأنه استقر في أنفسهم اعتقادهم التكذيب بالآخرة ، واستمروا عليه قرناً بعد قرن حتى تمكن تمكناً لا ينفع معه الاعتبار إلا لمن شاء الله .