ولما كان ظاهر الحال فيما أصاب الكفار من المسلمين في هذه الغزوة ربما كان سبباً{[18937]} في شك{[18938]} من لم يحقق بواطن الأمور ولا له أهلية النفوذ{[18939]} في الدقائق من عجائب المقدور في قوله تعالى :{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً{[18940]} }[ آل عمران : 10 ] { قل للذين كفروا ستغلبون{[18941]} }[ آل عمران : 12 ] ذكرهم الله تعالى نصره لهم{[18942]} في غزوة بدر ، وهم في القلة دون ما هم الآن بكثير ، مشيراً لهم{[18943]} إلى ما أثمره توكلهم من النصر ، وحالهم إذ ذاك حال الآئس منه ، ولذلك كانوا في غاية الكراهة للّقاء بخلاف ما كانوا عليه في هذه الكرة{[18944]} ، حثاً على ملازمة التوكل ، منبهاً على أنه لا يزال يريهم مثل ذلك النصر ويذيق الكفار أضعاف ذلك الهوان حتى يحق الحق ويبطل الباطل ويظهر دينه{[18945]} الإسلام على الدين كله فقال - عاطفاً على ما تقديره : فمن توكل عليه نصره وكفاه وإن كان قليلاً ، فلقد نصركم الله أول{[18946]} النهار{[18947]} في هذه الغزوة حيث{[18948]} صبرتم واتقيتم بطاعتكم للرسول صلى الله عليه وسلم في ملازمة التعب{[18949]} والإقبال على الحرب وغير ذلك بما أمركم به صلى الله عليه وسلم{[18950]} {[18951]}ولم تضركم قلتكم{[18952]} ولا ضعفكم بمن رجع عنكم{[18953]} شيئاً - : { ولقد نصركم الله } بما له من صفات الجلال والجمال { ببدر } المشار إليها أول السورة بقوله تعالى :{ قد كان لكم آية في فئتين التقتا{[18954]} }[ آل عمران : 13 ] لما صبرتم واتقيتم .
ولما كانوا في عدد يسير{[18955]} أشار{[18956]} إليه بجمع القلة فقال : { وأنتم أذلة } أي فاذكروا ذلك واجعلوه نصب أعينكم لينفعكم ، وكان الإتيان بأمر بدر بعد آية الفشل المختتمة بالحث على التوكل في الغاية من حسن النظم ، وهو دليل أيضاً على منطوق قوله تعالى :{ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً }[ آل عمران : 120 ] كما{[18957]} كان أمر أحد{[18958]} دليلاً على منطوقها ومفهومها معاً : دل على منطوقها بنصرهم أول النهار{[18959]} عند صبرهم ، وعلى مفهومها بإدالة العدو عليهم عند فشلهم آخره - والله الموفق ؛ على أنك إذا أنعمت التأمل في قصة أحد من السير وكتب الأخبار علمت أن الظفر فيها ما كان{[18960]} إلا للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي الخبر به في قوله تعالى : { ولقد صدقكم{[18961]} الله وعده إذ تحسونهم بإذنه{[18962]} } [ آل عمران : 52 ] ، فإن الصحابة رضي الله عنهم هزموهم - كما مضى - في أول النهار حتى لم يبق في عسكرهم أحد ، ولا بقي عند نسائهم حامٍ ، فلما خالف الرماة أمره صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على الغنيمة أراد الله تأديبهم وتعريفهم أن نصرته لنبيه صلى الله عليه وسلم غير محتاجة في الحقيقة إليهم {[18963]}حين انهزموا{[18964]} حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم غير نفر يسير ما يبلغون الخمسين ، والكفار ثلاثة آلاف وخيلهم مائتان ، فاستمر عليه الصلاة والسلام في نحورهم يحاولهم ويصاولهم ، يرامونه مرة ويطاعنون أخرى ، ويجتمعون عليه كرة ويفترقون{[18965]} عنه أخرى ، والله تعالى يمنعه{[18966]} منهم بأيده ويحفظه{[18967]} بقوته حتى تدلت الشمس للغروب ، وقتل بيده صلى الله عليه وسلم أُبي بن خلف مبارزة ، تصديقاً لما كان أوعده به قبل الهجرة ، وخالطوه غير مرة ولم يمكنهم الله منه ولا أقدرهم على أسر أحد من أصحابه ، ثم ردهم خائبين بعد أن تراجع إليه من أصحابه في أثناء النهار ، ولم يرجع صلى الله عليه وسلم من أحد إلا بعد انصرافهم ودفن من استشهد من أصحابه ، وأما هم فاستمروا راجعين ولم يلووا{[18968]} على أحد ممن قتل منهم ، وهم اثنان{[18969]} وعشرون رجلاً{[18970]} من سرواتهم وحمال راياتهم ، وقال الجلال الخجندي {[18971]}في كتابه فردوس{[18972]} المجاهدين : إنه صح النقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن{[18973]} من المواطن نصرته في{[18974]} يوم أحد - انتهى .
كفى على ذلك دليلاً ما نقل موسى بن عقبة - وسيرته أصح السير في غزوة الفتح - عن قائد الجيش بأحد{[18975]} أبي سفيان بن حرب أنه قال عندما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام{[18976]} : يا محمد ! قد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك ، فوالله ما لقيتك من مرة إلا ظهرت علي ، فلو كان إلهي محقاً وإلهك مبطلاً لقد ظهرت عليك{[18977]} ، وإنما كانت الهزيمة وقتل من قتل لحكم ومصالح لا تخفى{[18978]} على من له رسوخ في الشريعة وثبات قدم في السنن ، ويمكن أن تكون هذه القصة مندرجة في حكم النهي في القصة التي قبلها عن طاعة فريق من أهل الكتاب عطفاً على قوله تعالى : { نعمة } في قوله :
{ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم{[18979]} }[ آل عمران : 103 ] لتشابه القصتين في الإصغاء إلى الكفار قولاً أو {[18980]}فعلاً ، المقتضي لهدم{[18981]} الدين من{[18982]} أصله ، لأن همّ الطائفتين بالفشل إنما كان من أجل رجوع عبد الله بن أبي المنافق حليف أهل الكتاب ومواليهم ومصادقهم ومصافيهم ، ويؤيد ذلك نهيه تعالى في أثناء هذه عن مثل ذلك بقوله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين }[ آل عمران : 149 ] ، ويكون إسناد الفعل في { غدوت } ، وأمثاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد{[18983]} الإسناد إلى الجمع ، لأنه الرئيس فخطابه{[18984]} خطابهم ، ولشرف هذا الفعل ، فكان الأليق إفراده به صلى الله عليه وسلم ، وأما الفشل ونحوه فأسند إليهم وقصر- كما هو الواقع - عليهم .
ولما امتن{[18985]} الله{[18986]} سبحانه عليهم بالنصرة{[18987]} في تلك الكرة سبب عن ذلك أمرهم بالتقوى إشارة إلى أنها السبب لدوام النعمة فقال : { فاتقوا الله } أي في جمع أوامره ونواهيه مراقبين{[18988]} له بذكر جميع جلاله وعظمته وكماله { لعلكم تشكرون } وقد استشكل هذا بأن التقوى التنزه عن المعاصي ، والشكر فعل ينبىء عن تعظيم المنعم ، وشكر الله صرف جميع ما أنعم به في طاعاته ، فحينئذ التقوى من الشكر ، فإن أريد العموم انحل{[18989]} الكلام إلى : اشكروا لعلكم تشكرون ، ولا يتحرر الجواب إلا بعد معرفة حقيقة التقوى لغة ؛ قال الإمام عبد الحق{[18990]} في كتابه الواعي : الواقية{[18991]} ما وقاك الشر ، وكل شيء وقيت به شيئاً{[18992]} فهو وقاء له و{[18993]}وقاية ، وقوله سبحانه وتعالى : { لعلكم تتقون } قال ابن عرفة - أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم به وقاية بينكم وبين النار - انتهى .
فاتضح أن{[18994]} حقيقة { واتقوا } : اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية ، وأن سبب اتخاذ{[18995]} الوقاية الخوف من ضاره فالظاهر - والله أعلم - أن اتقوا بمعنى : خافوا - مجازاً مرسلاً من إطلاق اسم المسبب على السبب ، فالمعنى : خافوا الله لتكونوا على رجاء من أن يحملكم خوفه{[18996]} على طاعته على سبيل التجديد{[18997]} والاستمرار ، ولئن سلمنا أن التقوى من الشكر فالمعنى : اشكروا هذا الشكر الخاص ليحملكم على جميع الشكر ، وغايته أنه نبه على أن{[18998]} هذا الفرد من الشكر هو أصل الباب الذي يثمر باقيه ، وهوالمراد بقول{[18999]} ابن هشام في السيرة : إن المعنى : فاتقوني{[19000]} ، فإنه شكر{[19001]} نعمتي ، ويجوز أن يكون : لعلكم تزدادون{[19002]} نعماً فتشكرون{[19003]} عليها{[19004]} - إقامة للمسبب مقام السبب - والله أعلم .