نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

ولما كان كل من{[55367]} آمن بائعاً{[55368]} نفسه وماله لله ، لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ، وكان بعض الراسخين في الإيمان لم يعط الإيمان حقه في القتال في نفسه وماله ، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه ، أما في ماله فبالخروج عنه كله ، وأما في نفسه فيما يقحمها من الأهوال ، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له في بعض المواطن : " الزم مكانك وأمتعنا بنفسك " ، " ويقول له ولعمر رضي الله عنهما أنهما من الدين بمنزلة السمع والبصر " وكان أبو بكر رضي الله عنه في ليلة الغار يذكر الطلب فيتأخر ، والرصد فيتقدم ، وما عن الجوانب{[55369]} فيصير إليها ، ومنهم من وفى هذه الغزوة وما قبلها فأراد الله التنويه بذكرهم والثناء عليهم توفية لما يفضل به في حقهم ، وترغيباً لغيرهم{[55370]} فأظهر ولم يضمر لئلا يتقيد بالمذكورين سابقاً فيخص هذه الغزوة فقال : { من المؤمنين } أي الكمل { رجال } أي في غاية العظمة عندنا ، ثم وصفهم بقوله : { صدقوا } .

ولما كان العهد عند ذوي الهمم العلية ، والأخلاق الزكية ، لشدة ذكرهم له{[55371]} ومحافظتهم على الوفاء به ، وتصوره{[55372]} لهم حتى كأنه رجل عظيم قائم تجاههم ، يتقاضاهم الصدق ، عدى الفعل إليه فقال : { ما عاهدوا الله } المحيط علماً وقدرة وجلالاً وعظمة { عليه } أي من{[55373]} بيع أنفسهم وأموالهم له بدخولهم في هذا الدين الذي بنى على ذلك فوفوا به أتم وفاء ، وفي هذا إشارة إلى أبي لبابة بن{[55374]} المنذر رضي الله عنه ، وكان من أكابر المؤمنين الراسخين في صفة الإيمان حيث زل في إشارته إلى بني قريظة بأن المراد بهم الذبح ، كما تقدم في الأنفال في قوله تعالى : (

يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم }{[55375]}[ الأنفال : 27 ] فذهب من حينه وربط نفسه تصديقاً لصدقه{[55376]} في سارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة .

ولما ذكر الصادقين ، وكان ربما فهم{[55377]} أن الصدق لا يكون إلا بالقتل ، قسمهم قسمين{[55378]} مشيراً إلى خلاف ذلك بقوله : { فمنهم من قضى } أي أعطى { نحبه } أي نذره{[55379]} في معاهدته ، أنه ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم و{[55380]} يموت دونه ، وفرغ من ذلك وخرج من عهدته بأن قتل شهيداً ، فلم يبق عليه نذر كحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وسعد بن الربيع وأنس بن النضر{[55381]} الذي غاب عن{[55382]} غزوة بدر فقال : غبت عن أول قتال قاتل فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، لئن أشهدني الله قتالاً ليرين الله ما أصنع ، فلما انهزم من انهزم{[55383]} في غزوة أحد قال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ومما صنع هؤلاء - يعني المنهزمين من المسلمين . وقاتل حتى قتل بعد بضع وثمانين جراحة{[55384]} من ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورمية بسهم ، وروى البخاري{[55385]} عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " نرى{[55386]} هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر { من المؤمنين رجال } " - انتهى ، وغير هؤلاء ممن قتل قبل هذا في غزوة أحد وغيرها ، وسعد بن معاذ ممن جرح في هذه الغزوة وحكم في بني قريظة بالقتل والسبي{[55387]} ، ولم يرع لهم حلفهم لقومه ، ولا أطاع قومه في الإشارة عليه باستبقائهم كما استبقى عبد الله بن أبي المنافق بني قينقاع ولا أخذته بهم رأفة غضباً لله ولرسوله{[55388]} رضي الله عنه ، وممن لم يقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن {[55389]}عبيد الله أحد العشرة رضي الله عنهم ثبت{[55390]} في أحد وفعل ما لم يفعله غيره ، لزم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفارقه ، وذب عنه ووقاه{[55391]} بيده حتى شلت إصبعه فشهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه ممن قضى نحبه ، فالمراد بالنحب هنا العهد الذي هو كالنذر المفضي إلى الموت ، وأصل النحب الاجتهاد في العمل ، ومن هنا{[55392]} استعمل في النذر لأنه الحامل على ذلك { ومنهم } أي الصادقين { من ينتظر } قضاء النحب إما بالنصرة ، أو الموت على الشهادة ، أو مطلق المتابعة الكاملة .

ولما كان{[55393]} المنافقون ينكرون أن يكون أحد صادقاً فيما يظهر من الإيمان ، أكد قوله تعريضاً بهم : { وما بدلوا تبديلاً } أي وما أوقعوا شيئاً من تبديل بفترة أو توان ، فهذا تصريح بمدح أهل الصدق ، وتلويح بذم أهل النفاق عكس ما تقدم ، روى البخاري{[55394]} عن زيد بن ثابت{[55395]} رضي الله عنه قال : لما نسخنا الصحف{[55396]} بالمصاحف{[55397]} فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها ، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري - رضي الله عنه - الذي جعل{[55398]} رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } . وقوله : " نسخنا الصحف " التي كانت عند حفصة رضي الله عنها بعد موت عمر رضي الله عنه " في المصاحف " التي أمر بها عثمان رضي الله عنه ، وقوله : " لم أجدها " أي مكتوبة بدليل حفظه لها ، وهذا يدل على أنه لما نسخ المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه لم يقتنعوا بالصحف . بل ضموا{[55399]} إليها ما هو مفرق عند الناس مما كتب بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحضرته كما فعلوا حين جمعوا الصحف على عهد أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين{[55400]} .


[55367]:زيد من ظ وم ومد.
[55368]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: بايع.
[55369]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الجواب.
[55370]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: نصرهم.
[55371]:زيد من ظ وم ومد.
[55372]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: تصويره.
[55373]:في ظ: منه.
[55374]:زيد من ظ وم ومد.
[55375]:آية 27.
[55376]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لمصدقه.
[55377]:من مد، وفي الأصل وظ وم: فيهم.
[55378]:زيد من ظ وم ومد.
[55379]:زيد من ظ وم ومد.
[55380]:من مد، وفي الأصل وظ وم: أو.
[55381]:في ظ: أبي النضر.
[55382]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: في.
[55383]:زيد من ظ وم ومد.
[55384]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: جراعة.
[55385]:زيد من ظ وم ومد.
[55386]:من ظ وم ومد وصحيح البخاري 2/705، وفي الأصل: ترى.
[55387]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالسبي.
[55388]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: رسوله.
[55389]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عبد الله إحدى.
[55390]:سقط من ظ.
[55391]:من م ومد، وفي الأصل وظ: رقاه.
[55392]:من م ومد، وفي الأصل وظ: هذا.
[55393]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: كانوا المنانوا ـ كذا.
[55394]:راجع صحيحه 2/705.
[55395]:زيد من ظ وم ومد والصحيح.
[55396]:من ظ وم ومد والصحيح، وفي الأصل: المصحف.
[55397]:في الصحيح: في المصاحف.
[55398]:من ظ وم ومد والصحيح، وفي الأصل: جعله.
[55399]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: صمنوا.
[55400]:زيد من ظ وم ومد.