نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{لَهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ ظُلَلٞ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحۡتِهِمۡ ظُلَلٞۚ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِۦ عِبَادَهُۥۚ يَٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ} (16)

ولما علم بهذا أنه البين في نفسه المنادي بما فيه من القباحة بأنه لا خسران غيره ، فصله بقوله على طريق التهكم بهم : { لهم } فإن عادة اللام عند مصاحبة المجرور ولا سيما الضمير إفهام المحبوب للضمير لا سيما مع ذكر الظلل ، وأشار إلى قربها منهم بإثبات الجار فقال : { من فوقهم ظلل } ولما أوهمهم ذلك الراحة ، أزال ذلك بقوله : { من النار } وذلك أنكأ مما لو أفهمهم الشر من أول الأمر . ولما كان في القرار - كائناً ما كان على أي حال كان نوع من الراحة بالسكون ، بين أنهم معلقون في غمرات الاضطراب ، يصعدهم اللهيب تارة ، ويهبطهم انعكاسه عليهم برجوعه إليهم أخرى ، فلا قرار لهم أصلاً كما يكون الحب في الماء على النار ، يغلي به صاعداً وسافلاً ، لا يقر في أسفل القدر أصلاً لقوله : { ومن تحتهم } .

ولما كان كون الظلة المأخوذة من الظل من تحت في غاية الغرابة ، أعادها ولم يكتف بالأولى ، ولم يعد ذكر النار لفهمها في التحت من باب الأولى فقال : { ظلل } ومما يدل على ما فهمته من عدم القرار ما رواه البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال : " من رأى منكم الليلة رؤيا ، فسألنا يوماً قلنا : لا ، قال : لكني رأيت رجلين أتياني فأخذا بيدي وأخرجاني إلى الأرض المقدسة " - فذكره بطوله حتى قال : " فانطلقنا إلى نقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع ، توقد تحته نار ، فإذا فيه رجال ونساء عراة فيأتيهم اللهيب من تحتهم فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجون فإذا خمدت رجعوا " فذكره وهو طويل عظيم ، ثم فسرهم بالزناة .

ولما كان هذا أمراً مهولاً ، وهم لا يرهبونه ولا يرجعون عن غيّهم به ، ذكر فائدته مع الزيادة في تعظيمه فقال : { ذلك } أي الأمر العظيم الشأن { يخوف الله } أي الملك الأعظم الذي صفاته الجبروت والكبر { به عباده } أي الذين لهم أهلية الإقبال عليه ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم فيعيذهم منه . ولما أهلهم للإضافة إليه وخوفهم سطواته ، أقبل عليهم عند تهيئتهم للاستماع منبهاً على أنه تخويف استعطاف فقال : { يا عباد فاتقون * } أي سببوا عن ذلك أن تجعلوا بينكم وبين ما يسخطني وقاية مما يرضيني لأرضى عنكم .